لطالما حدثتني صديقتي الشاعرة الليبية خديجة بسيكري عن خالتها رحمونة تلك العجوز التي بمثابة ضمير اجتماعي اعرافي تقاليدي حي , عندما غابت امثال رحمونة غابت البركة وغاب وجهنا الجميل وصيتنا الطيب وسلوكياتنا الحميدة ستقول خديجة عن رحمونة ما يلي :
خالتي رحمونة
خالتي رحمونة امرأة ليبية مثل أي امرأة ليبية حقيقية مازالت تضع البمبوك عندما تسمع اول صوت ذكوري يدخل الدار لكنها تري ما نجهله ولو وضعنا عدسات مكبرة !!.
خالتي رحمونة وفي قول اخر (ارحمونا) تزور كل بيوتنا بدون استئذان ولا تحديد مواعيد تزم شفتيها عندما تجد (الدنيا حايسة وتفلي رؤوسنا اذا ما تجرأ احدنا وهرش شعره امامها .. وترمي الملعقة بغضب اذا زادت كمية الملح في الطعام عن المطلوب .
خالتي رحمونة اذاعة متنقلة وعين لاقطة لمكامننا واخطائنا .. لذلك ترتجف ربات البيوت ويغادرن كسلهن مهرولات عندما يسمعن طرقاتها علي الباب ودقة عكازها !!!! .
لذلك فان كل نساء حينا اصبحن يتبارين في نظافة بيوتهن وفي التفنن في اعداد وجباتهن وفي نظافة صغارهن .. وحتى متابعة دراستهم لأن اخبار نتائجهم المدرسية لابد ان تصل الي اسماع خالتي رحمونة عن طريق وسائلها الخاصة مهما تكتمنا واتخذنا كافة الاحتياطات !!!! ولانها تمتاز بصوت مجلجل فان كل اهل البيت الموزعين بين غرفهم تصلهم حيثيات الحوار الدائر في مجلسها لهذا تتجنب نساؤنا النميمة في حضورها (الخسار) علي رأي عجائزنا وهي اختصار لكلمة باختصار!!!.
خالتي رحمونة هذه فيروس اخلاقي يهدد عاداتنا السيئة من اهمال تربوي وبيئي ومعنوي وحيث ان الجميع يخاف من النشرة التي تبثها المذكورة فيرغم نفسه عل الظهور بمظهر لائق وحضاري والويل كل الويل لجارنا الذي سولت له نفسه ذات مرة مغازلة ابنة جيرانهم حيث انه اصبح عبرة لمن يعتبر ولم يعقه عن التزوج الا ان بيته مشيد بطريقة عصرية وليس خيمة يهد اوتادها ويرحل!!!غير انها بعد بيانها التنديدي الاول اصدرت نشرة تحليلية تفسر فيها سلوك الزوج واضطراره الى هذا السلوك المشين ضمنت فيه كثيرا من السلوكيات الخاصة باداب الزيارة وتقصير الزوجات تجاه ازواجهن والعديد من الظواهر الاجتماعية السلبية التي اضطرت الزوج الى مغازلة جارته!!!
أجيال وراء أجيال كانت في حياتها خالتي رحمونة او ارحمونا !! ترى ما الذي تقوله لنا في يومياتها وهي تنتقل بين ازقتنا ومدارسنا ومستشفياتنا وعياداتنا الخاصة ومحالتنا التجارية واماناتنا وشركاتنا ؟!
خديجة بسيكري – صحيفة الجماهيرية
وكنت قلت فيما يدور في نفس الفلك وفي صحيفة نور الفجر الالكترونية , اشياء عن عجائزنا الطيبات حاميات الاعراف والسلوكيات الحميدة غابن فليس مستغربا ان نضع تعويذات ونقرأ المعوذات لنتقي شر من لم تكن في حياة اسرته المرشدة رحمونا!
يحدث في شهر رمضان المبارك
يمر شهر رمضان المبارك بالبعض منسابا هنيئا مبهرجا , ويمر هكذا ايضا بالجميع .
رمضان الشهي التقي الورع , ومن ثم رمضان يبقى الدهر ونحن نذهب على دفعات في الدهر. ونقول تفاؤلا عادة انشاء الله من العائدين الفائزين.
ولرمضان قدوم مبارك وذهاب جلاب , يأتي بالعيد وبالفرحة المرسومة في عيون الصغار, الفرحة التي خلقت الذاكرة الحلوة التي نعود لها كبارا بين الحين والاخر في وقفات النفس على ذكرياتها الجميلة والأيام الخوالي التي هي - ولا ادري لماذا - افضل من الأن كما سيكون الأن افضل من الأتي.
فالذاكرة لعبة شقية وذكية . الوانها زاهية ومراياها مكبرة .
والذاكرة ايضا ضمير وحارس للتراث وللعادات والتقاليد . رمضان زمان كان جميلا وطقوسيا بدرجة كبيرة . نتحرك فيه بدقة شديدة . مبرمج ومنظم وفق اعراف متوارثة منذ القدم, يتهادى ثلاثون ليلة وثلاثون افطارا على ايقاع المدافع التي تسمع في اطراف المدينة دويا مكتوما .
قالت لي امي :اعجب لماذا اندثرت عادة انطلاق المدفع عند الافطار في شهر رمضان؟ كنا نؤقت عليه شهرنا وافطارنا . نرهف اذاننا لسماع دويه المكتوم ان كنا بعيدو المشقة وترتج الارض وتهتز السماء ان كان في الجوار. يُحيي شمس النهار الأفلة . ويعطي الآذن لتلقف حبيبات التمر وتجرع اللبن هنيئا مريئا محللين صيامنا وربنا لك صمنا وافطرنا .
والحديث عن العادات الرمضانية يطول وهو ممتع ايضا و انا من الاشخاص الذين لايملون منه كما ادون كل ما اقع عليه من ذاكرة اراها مهددة بالضياع.
صديقة لي شديد" التحشيش " رأيتها عاقدة الحاجبين , عرفت ان ثمة امر يزعجها , فهي تحب رمضان وتتفنن فيه عبادة وتقوى , وتكون فية صائمة ليبية بأ متياز شديد , افضل الافطار ما تصنعه يداها واشهى المذاقات على سفرتها الرمضانية , مخترعة بارعة لموضات الشقاشق الرمضانية , ما ان تطلق احدى اختراعاتها في احدى اللمات الرمضانية الأ وتنتشر في المدينة كالهشيم لتصبح بعد اسبوع على كل سفرة ومدونة في كل نوتة رمضانية اعتادت نسوة بنغازي والبنات في تدوين محتوياتها قبل رمضان بشهر حين تبدأ حمى الاستعداد له وتفوح رائحته في هواء المدينة مع نسيم بحرها العليل الا قليلا لتمتلئ النوتة حتى اخر صفحة فيها مع تقدم الشهر وتلاقي النسوة من لمة رمضانية الى اخرى في بيوتات المدينة العامرة .
وكنت دائما اراها منهمكة في الاعداد لرمضان وشراء لوازمه وكم تدقق مليا في انتقاءها , لاترضى بغير الممتاز منها ولو كلفها الامر جولات مكوكية في ارجاء بنغازي بين متاجرها التي تتنافس في عرض افضل ما لديها وجلب حتى لبن العصفور ان كان طلبا متفق عليه. سنتها دقيقة ومِِؤكدة وانشالله لا تنقطع .
- مابك ؟ لا اراك كما كنت اراك من قبل ؟
سألتها وانا ارى تغيير ما عليها . شيء ما ينقصها . صورتها غير مكتملة.
قالت:
" انا تعبة , وكلي سأم وملل وكلل. فقدت القدرة على استطعام الاشياء.
ارى ان لامفر من الانحناء حتى تمر عاصفة رمضان الموسمية الهوجاء .
ليس رمضان ربي ما اقصد , حاشاه , انما رمضان الناس الذي شكلته بطونهم .
اتأمل يدي المتشققتين واناملي المتورمة واظافري المتقصفة واترحم على جدارتهما القديمة بدعايات المانيكير وكريمات الترطيب.
ولت ازمان النعومة وانشبت مخالب البوطاس وانياب الصوابين فيهما الجفاف والخشونة , اشلاء مخلوقين غريبين بعشرة ملامس مكدودة يئنان طيلة الليل وينبضان وجعا , وتلهج عروقهما النافرة بالسخط والتمرد.
بالامس كانتا في معمعة المعدنوس واطنان اللحم والعجائن ومايلزم . اثنتان تعملان وردية ملاكم وقاطع احجار وحامل اثقال وكيميائي احماض وجزار وكواش وحلواني ومدير مطعم مافوق الخمس نجوم وسفرجي شديد الحراك وراقص مكانسي وغاسل اتوماتيكي عتيد وعتال ومتعالج بالصدمات الكهربائية وملمع ارضيات بارع وجامع قمامة يومي ورياضي ايروبيكي ومتلقي امتعاض وسؤ تقدير وململم شعر وعاقد مناديل رأس ولاحول ولاقوة الا بالله".
رباه !
كدت انقلع من قوة عصف سخطها . ليست هي من يتكلم : عاشقة شهر رمضان بلا منازع ؟ مرسخة العادات الرمضانية المستحدثة , الآتية بالجديد والشهي واللذيذ . التقية الورعة الأخذة بالأمور الى نصابها , اول من صلت التراويح في الجامع وهاهي المدينة على غرارها تخرج نساؤها زرافات بعد الافطار لصلاة التراويح وللتلاقي وللتعارف وللتغيير. ثمة شيئ يحدث لها . هذا السخط وراءه ما وراءه . لعلها استنفدت نفسها ووصلت الى اخر مطاف اقبالها على الحياة ومباهجها . الشكوى عادة سببها الشعور بالاهمال او الاحساس بالضياع اوبعدم الجدوى حين لاتلاقي جهودنا وفرحتنا واقبالنا مرآة محبة تنعكس فيها صورتنا رائقة وجميلة.
الناس تتغير , والزمن يتغير . والمفاهيم كذلك , والعادات الجميلة تنقرض تدريجيا لتحل غيرها سواء شئنا ام امتعضنا , لا نحس بها الا حين نتوقف مرة لنبحث عنها في لحظات توقف فلا نجدها لنعرف ان شعور الضياع الذي يراودنا احيانا سببه اشياء لم تعد في مجال رؤيتنا لم نعد نحتك بها يوميا ,او ندرك وجودها بدون ان نقف لتأملها لتلقائيتها و.....
نحن كبرنا نكتشف ذلك فجأة
كلما ابتعدنا عن طفولتنا وصبانا وشبابنا كلما فقدنا القدرة على هضم الجديد.
والمدينة الآن تخلق ذاكرة ليست ذاكرتنا , تخلق ذاكرة اطفال اليوم وشبابه , ترتسم في عقولهم ليجدوها حين يكونون في عمرنا وعمر من يكبرنا سنا.
المدينة تتغير مع تغير الحراك الاجتماعي والاختلاط البشري ووفود العادات والتقاليد الجديدة مع القادمين ومع الجيل الجديد الذي انقطعت صلته مع عقود مضت , وتوثقتت صلته مع الفضائيات التى تقوم مقام التربية الاجتماعية منها يستقي افكاره وهندامه وشكل بيته وسيارته واسلوب تعامله مع الحياة في اسلوب هجين غريب.
ايضا كما قال امامي احدهم مرة وعلق في نفسي تحليله مفسحا مجالا للتأمل الاجتماعي العميق .
قال:
"اتعرفون لماذا فقدت مناسباتنا نكهتها , وفقدت طقوسها المألوفة واصبحت لا هي بالليبية ولا بالعربية في اضعف الاحوال, ودخلت عليها تأثيرات من كل الاصقاع ؟؟
لأن عجائزنا الطيبات الوقورات حاملات الاعراف ومرسخات القيم وناقلاتها وسط الخراريف في ليالي الشتاء الطويلة , حاقظات الذاكرة الجماعية , وتاريخنا الشفوي وادابنا وعاداتنا وتقاليدنا في تناقص ملفت .
انظروا في المناسبات وليعد لي احدكم كم فيها من عجوز ليبية موشومة ورصينة وسمحة اللبسة والتهنديمة بألوان رداءها الليبي الزاهية والجميلة؟
لقد غابت بركتنا , عجائزنا بتوجيههن اللطيف وغير اللطيف احيانا , "بتشقيصهن عالغلط" وبوقوفهن واشرافهن وتوجيههن , كانت كلمة "كسبس" ! مع رفعة حاجب ونظرة شزر كفيلة بتفتيت الغلط والارتداد عنه.
قل ذلك بغياب بركتنا فمنهن من توفاها الله ومن اقعدها المرض عن اداء واجبها الاجتماعي وبالتالي ومع تمرد الاجيال اللاحق ة: احيانا في العقود السابقة وفي المطلق في العقدين الاخيرين على كل ما يحملن ويرسخن من عادات محلية شديدة الخصوصة بالمدينة وعربها في ظل انفتاح العالم على بعضه في عولمة اصبحت تلقي بظلالها على كل شيء , مد مقدر لا مفر منه اخذت حياتنا تتغير.
فعلا معه حق . وايضا مع الاجيال الجديدة الحق ايضا , فعليها ان تعيش زمنها بتحولاته وحراكه , حتى وان اختلف مع زمننا كما اختلف زمننا مع زمان سابقينا .
ليلى النيهوم - صحيفة نور الفجر
خالتي رحمونة
خالتي رحمونة امرأة ليبية مثل أي امرأة ليبية حقيقية مازالت تضع البمبوك عندما تسمع اول صوت ذكوري يدخل الدار لكنها تري ما نجهله ولو وضعنا عدسات مكبرة !!.
خالتي رحمونة وفي قول اخر (ارحمونا) تزور كل بيوتنا بدون استئذان ولا تحديد مواعيد تزم شفتيها عندما تجد (الدنيا حايسة وتفلي رؤوسنا اذا ما تجرأ احدنا وهرش شعره امامها .. وترمي الملعقة بغضب اذا زادت كمية الملح في الطعام عن المطلوب .
خالتي رحمونة اذاعة متنقلة وعين لاقطة لمكامننا واخطائنا .. لذلك ترتجف ربات البيوت ويغادرن كسلهن مهرولات عندما يسمعن طرقاتها علي الباب ودقة عكازها !!!! .
لذلك فان كل نساء حينا اصبحن يتبارين في نظافة بيوتهن وفي التفنن في اعداد وجباتهن وفي نظافة صغارهن .. وحتى متابعة دراستهم لأن اخبار نتائجهم المدرسية لابد ان تصل الي اسماع خالتي رحمونة عن طريق وسائلها الخاصة مهما تكتمنا واتخذنا كافة الاحتياطات !!!! ولانها تمتاز بصوت مجلجل فان كل اهل البيت الموزعين بين غرفهم تصلهم حيثيات الحوار الدائر في مجلسها لهذا تتجنب نساؤنا النميمة في حضورها (الخسار) علي رأي عجائزنا وهي اختصار لكلمة باختصار!!!.
خالتي رحمونة هذه فيروس اخلاقي يهدد عاداتنا السيئة من اهمال تربوي وبيئي ومعنوي وحيث ان الجميع يخاف من النشرة التي تبثها المذكورة فيرغم نفسه عل الظهور بمظهر لائق وحضاري والويل كل الويل لجارنا الذي سولت له نفسه ذات مرة مغازلة ابنة جيرانهم حيث انه اصبح عبرة لمن يعتبر ولم يعقه عن التزوج الا ان بيته مشيد بطريقة عصرية وليس خيمة يهد اوتادها ويرحل!!!غير انها بعد بيانها التنديدي الاول اصدرت نشرة تحليلية تفسر فيها سلوك الزوج واضطراره الى هذا السلوك المشين ضمنت فيه كثيرا من السلوكيات الخاصة باداب الزيارة وتقصير الزوجات تجاه ازواجهن والعديد من الظواهر الاجتماعية السلبية التي اضطرت الزوج الى مغازلة جارته!!!
أجيال وراء أجيال كانت في حياتها خالتي رحمونة او ارحمونا !! ترى ما الذي تقوله لنا في يومياتها وهي تنتقل بين ازقتنا ومدارسنا ومستشفياتنا وعياداتنا الخاصة ومحالتنا التجارية واماناتنا وشركاتنا ؟!
خديجة بسيكري – صحيفة الجماهيرية
وكنت قلت فيما يدور في نفس الفلك وفي صحيفة نور الفجر الالكترونية , اشياء عن عجائزنا الطيبات حاميات الاعراف والسلوكيات الحميدة غابن فليس مستغربا ان نضع تعويذات ونقرأ المعوذات لنتقي شر من لم تكن في حياة اسرته المرشدة رحمونا!
يحدث في شهر رمضان المبارك
يمر شهر رمضان المبارك بالبعض منسابا هنيئا مبهرجا , ويمر هكذا ايضا بالجميع .
رمضان الشهي التقي الورع , ومن ثم رمضان يبقى الدهر ونحن نذهب على دفعات في الدهر. ونقول تفاؤلا عادة انشاء الله من العائدين الفائزين.
ولرمضان قدوم مبارك وذهاب جلاب , يأتي بالعيد وبالفرحة المرسومة في عيون الصغار, الفرحة التي خلقت الذاكرة الحلوة التي نعود لها كبارا بين الحين والاخر في وقفات النفس على ذكرياتها الجميلة والأيام الخوالي التي هي - ولا ادري لماذا - افضل من الأن كما سيكون الأن افضل من الأتي.
فالذاكرة لعبة شقية وذكية . الوانها زاهية ومراياها مكبرة .
والذاكرة ايضا ضمير وحارس للتراث وللعادات والتقاليد . رمضان زمان كان جميلا وطقوسيا بدرجة كبيرة . نتحرك فيه بدقة شديدة . مبرمج ومنظم وفق اعراف متوارثة منذ القدم, يتهادى ثلاثون ليلة وثلاثون افطارا على ايقاع المدافع التي تسمع في اطراف المدينة دويا مكتوما .
قالت لي امي :اعجب لماذا اندثرت عادة انطلاق المدفع عند الافطار في شهر رمضان؟ كنا نؤقت عليه شهرنا وافطارنا . نرهف اذاننا لسماع دويه المكتوم ان كنا بعيدو المشقة وترتج الارض وتهتز السماء ان كان في الجوار. يُحيي شمس النهار الأفلة . ويعطي الآذن لتلقف حبيبات التمر وتجرع اللبن هنيئا مريئا محللين صيامنا وربنا لك صمنا وافطرنا .
والحديث عن العادات الرمضانية يطول وهو ممتع ايضا و انا من الاشخاص الذين لايملون منه كما ادون كل ما اقع عليه من ذاكرة اراها مهددة بالضياع.
صديقة لي شديد" التحشيش " رأيتها عاقدة الحاجبين , عرفت ان ثمة امر يزعجها , فهي تحب رمضان وتتفنن فيه عبادة وتقوى , وتكون فية صائمة ليبية بأ متياز شديد , افضل الافطار ما تصنعه يداها واشهى المذاقات على سفرتها الرمضانية , مخترعة بارعة لموضات الشقاشق الرمضانية , ما ان تطلق احدى اختراعاتها في احدى اللمات الرمضانية الأ وتنتشر في المدينة كالهشيم لتصبح بعد اسبوع على كل سفرة ومدونة في كل نوتة رمضانية اعتادت نسوة بنغازي والبنات في تدوين محتوياتها قبل رمضان بشهر حين تبدأ حمى الاستعداد له وتفوح رائحته في هواء المدينة مع نسيم بحرها العليل الا قليلا لتمتلئ النوتة حتى اخر صفحة فيها مع تقدم الشهر وتلاقي النسوة من لمة رمضانية الى اخرى في بيوتات المدينة العامرة .
وكنت دائما اراها منهمكة في الاعداد لرمضان وشراء لوازمه وكم تدقق مليا في انتقاءها , لاترضى بغير الممتاز منها ولو كلفها الامر جولات مكوكية في ارجاء بنغازي بين متاجرها التي تتنافس في عرض افضل ما لديها وجلب حتى لبن العصفور ان كان طلبا متفق عليه. سنتها دقيقة ومِِؤكدة وانشالله لا تنقطع .
- مابك ؟ لا اراك كما كنت اراك من قبل ؟
سألتها وانا ارى تغيير ما عليها . شيء ما ينقصها . صورتها غير مكتملة.
قالت:
" انا تعبة , وكلي سأم وملل وكلل. فقدت القدرة على استطعام الاشياء.
ارى ان لامفر من الانحناء حتى تمر عاصفة رمضان الموسمية الهوجاء .
ليس رمضان ربي ما اقصد , حاشاه , انما رمضان الناس الذي شكلته بطونهم .
اتأمل يدي المتشققتين واناملي المتورمة واظافري المتقصفة واترحم على جدارتهما القديمة بدعايات المانيكير وكريمات الترطيب.
ولت ازمان النعومة وانشبت مخالب البوطاس وانياب الصوابين فيهما الجفاف والخشونة , اشلاء مخلوقين غريبين بعشرة ملامس مكدودة يئنان طيلة الليل وينبضان وجعا , وتلهج عروقهما النافرة بالسخط والتمرد.
بالامس كانتا في معمعة المعدنوس واطنان اللحم والعجائن ومايلزم . اثنتان تعملان وردية ملاكم وقاطع احجار وحامل اثقال وكيميائي احماض وجزار وكواش وحلواني ومدير مطعم مافوق الخمس نجوم وسفرجي شديد الحراك وراقص مكانسي وغاسل اتوماتيكي عتيد وعتال ومتعالج بالصدمات الكهربائية وملمع ارضيات بارع وجامع قمامة يومي ورياضي ايروبيكي ومتلقي امتعاض وسؤ تقدير وململم شعر وعاقد مناديل رأس ولاحول ولاقوة الا بالله".
رباه !
كدت انقلع من قوة عصف سخطها . ليست هي من يتكلم : عاشقة شهر رمضان بلا منازع ؟ مرسخة العادات الرمضانية المستحدثة , الآتية بالجديد والشهي واللذيذ . التقية الورعة الأخذة بالأمور الى نصابها , اول من صلت التراويح في الجامع وهاهي المدينة على غرارها تخرج نساؤها زرافات بعد الافطار لصلاة التراويح وللتلاقي وللتعارف وللتغيير. ثمة شيئ يحدث لها . هذا السخط وراءه ما وراءه . لعلها استنفدت نفسها ووصلت الى اخر مطاف اقبالها على الحياة ومباهجها . الشكوى عادة سببها الشعور بالاهمال او الاحساس بالضياع اوبعدم الجدوى حين لاتلاقي جهودنا وفرحتنا واقبالنا مرآة محبة تنعكس فيها صورتنا رائقة وجميلة.
الناس تتغير , والزمن يتغير . والمفاهيم كذلك , والعادات الجميلة تنقرض تدريجيا لتحل غيرها سواء شئنا ام امتعضنا , لا نحس بها الا حين نتوقف مرة لنبحث عنها في لحظات توقف فلا نجدها لنعرف ان شعور الضياع الذي يراودنا احيانا سببه اشياء لم تعد في مجال رؤيتنا لم نعد نحتك بها يوميا ,او ندرك وجودها بدون ان نقف لتأملها لتلقائيتها و.....
نحن كبرنا نكتشف ذلك فجأة
كلما ابتعدنا عن طفولتنا وصبانا وشبابنا كلما فقدنا القدرة على هضم الجديد.
والمدينة الآن تخلق ذاكرة ليست ذاكرتنا , تخلق ذاكرة اطفال اليوم وشبابه , ترتسم في عقولهم ليجدوها حين يكونون في عمرنا وعمر من يكبرنا سنا.
المدينة تتغير مع تغير الحراك الاجتماعي والاختلاط البشري ووفود العادات والتقاليد الجديدة مع القادمين ومع الجيل الجديد الذي انقطعت صلته مع عقود مضت , وتوثقتت صلته مع الفضائيات التى تقوم مقام التربية الاجتماعية منها يستقي افكاره وهندامه وشكل بيته وسيارته واسلوب تعامله مع الحياة في اسلوب هجين غريب.
ايضا كما قال امامي احدهم مرة وعلق في نفسي تحليله مفسحا مجالا للتأمل الاجتماعي العميق .
قال:
"اتعرفون لماذا فقدت مناسباتنا نكهتها , وفقدت طقوسها المألوفة واصبحت لا هي بالليبية ولا بالعربية في اضعف الاحوال, ودخلت عليها تأثيرات من كل الاصقاع ؟؟
لأن عجائزنا الطيبات الوقورات حاملات الاعراف ومرسخات القيم وناقلاتها وسط الخراريف في ليالي الشتاء الطويلة , حاقظات الذاكرة الجماعية , وتاريخنا الشفوي وادابنا وعاداتنا وتقاليدنا في تناقص ملفت .
انظروا في المناسبات وليعد لي احدكم كم فيها من عجوز ليبية موشومة ورصينة وسمحة اللبسة والتهنديمة بألوان رداءها الليبي الزاهية والجميلة؟
لقد غابت بركتنا , عجائزنا بتوجيههن اللطيف وغير اللطيف احيانا , "بتشقيصهن عالغلط" وبوقوفهن واشرافهن وتوجيههن , كانت كلمة "كسبس" ! مع رفعة حاجب ونظرة شزر كفيلة بتفتيت الغلط والارتداد عنه.
قل ذلك بغياب بركتنا فمنهن من توفاها الله ومن اقعدها المرض عن اداء واجبها الاجتماعي وبالتالي ومع تمرد الاجيال اللاحق ة: احيانا في العقود السابقة وفي المطلق في العقدين الاخيرين على كل ما يحملن ويرسخن من عادات محلية شديدة الخصوصة بالمدينة وعربها في ظل انفتاح العالم على بعضه في عولمة اصبحت تلقي بظلالها على كل شيء , مد مقدر لا مفر منه اخذت حياتنا تتغير.
فعلا معه حق . وايضا مع الاجيال الجديدة الحق ايضا , فعليها ان تعيش زمنها بتحولاته وحراكه , حتى وان اختلف مع زمننا كما اختلف زمننا مع زمان سابقينا .
ليلى النيهوم - صحيفة نور الفجر