4
عندما كان يصل على دراجته الشهيرة وينزل عنها ليركنها جوار الباب الكبير , كنا نركض إليه نصرخ بإسمه مرفوقا بدرجة قرابته لكل منا فرحين يبهرنا شعره الأبيض اللامع في الشمس , أوراقه التي يحملها في اضبارة عتيقة , بذلته الأنيقة , ابتسامته الرائعة . كنا نتقافز حوله , نتمسح به , يربت على أكتافنا , يهش شعرنا , يحمل أصغرنا , يمضي أمامنا ونحن من حوله كتيبة من الحب ومن التسول الخجل لقروش لا تخلو منها جيوبه
طيبته لا مثيل لها , صبره فائق , كان يجلس لساعات يفكك الحروف من لغة غريبة لينقلها إلى لغتنا في كتب كان ينشرها على حلقات في الجريدة الواسعة الانتشار التي يجلبها الكبار , يتحلقون حولها يقرؤها احدهم , يستمع الآخرون هازين رؤوسهم , متمتمين بعبارات تنم عن الاستحسان وتحليلات نعجز عن فهمها حين يهدنا التعب فنتوسد ركب أمهاتنا نغالب النعاس , نراقب الهوام والحشرات تتزاحم على المصباح في فناء البيت الذي تسقفه عريشة العنب وتتسلق على جدرانه الياسمينة الشامية ذات الأريج الذي يتسلل لأحلامنا فلا تعود مثل أحلام الآخرين
كان يخلق مما يعجز عن قوله مباشرة مدارة لأخطاء الآخرين وحسن طبع منه مسرحيات زاخرة بالعظات الأخلاقية والدروس المستنبطة من معاركة الحياة , كانت مربوعته تزدحم بالمسرحيين والكتبة والممثلين , نختبئ وراء خصص النوافذ المطلة على مجلسه , نتلصص عليهم , نبحث عن شبه بينهم وبين جلاس الاستراحة القدامى رفاق والده لابسوا الطرابيش محتسوا الشاي باللوز الذين استجلبنا ذكراهم , أصواتهم , وقارهم في حلقة أيدينا وقلوبنا المتماسكة
كان يعرف إننا هناك , يعرف إن البنت الشقية الوحيدة المسموح لها بحضور المجلس تختبئ وراء الستارة بعد أن صرفها حين اخذت تلفت وجهه بيدها نحوها طوال الوقت وهي تجلس على ركبتيه متسعة العينين مبتسمة بخبث لنا , لا تريده أن يتحاور مع الآخرين استئثارا به . أزعجه تملكها والغرغرات اللغوية الزهراوية التي تلجأ إليها حين تعييها الحيل , تمد أصابعها الطويلة , تتشقلب مثل المهرجين , , تقلب جفونها ليبين باطنهما الأحمر , تُجحظ عيناها تستدران اهتمامه وضحكات الضيوف, كان يلمح قدميها المعفرين في الحذاء المتهرئ مقدمه- من ملاحقة " البرنجية" وركل الأحجار بحثا عن العقارب - خلف الستارة حيث تختبئ فيبتسم حنوا
يا لصبره لم يركل ناصر مثلما يفعل الآخرون حين يؤتي واحدة من أفاعيله الشقية - ناصر العارف لكل شيء , الملم بكل تحركات المخلوقات على اشكالها في زرائب وإسطبلات وأعشاش الوسعاية والسانية ,- حين أقنعنا لنري الكلبة التي ولدت جراء قال إنها تختبئ بين كتب الجد الأكبر العتيقة ذات الرائحة الغريبة في المخزن المتاخم لجبانة الرعب . كانت الصناديق تحوي علوما صوفية وما ورائية قرأت الشقية ذات مرة بعضها خلسة قبل أن يخفوها عن متناولها في هذا المكان المرعب , وقت اكتشفوا فعلتها بعد إن ساورتها حمى غريبة و هلاوس واقشعرار بدن تلبسها من بعض الكتب في تحضير الأرواح ومكالمة الموتى وتسخير الجان وغيرها من علوم صفراء حاولت تطبيقها , ليقرؤوا عليها القرآن ويكبروا في أذنيها طويلا قبل أن تستفيق من غشيتها وتبل من حمتها
تيبست أرجلنا وتعثرت في تحفزها فيما وازنت أنفسنا الأمارة بالمغامرات بين إغراء الجراء المكتنزة , وبين مخالب الموتي الأخذة بتلابيب السابلة الذين تخونهم أرجلهم وتقترب بهم في غفلة نحو القبور التي يرى على بعضها- في بعض الأحيان حين ينكشف النظر- ملابس مغامرات راقديها الليلية متروكة على الشواهد بعد أن تنكرت بها للطريق تستوقف العابرين من مقاهي البياصة والسينمات المتناثرة , تركب معهم في سياراتهم تثرثروتتبادل معهم أخر الأخبار والإشاعات لتزيل مللها ووحشتها السرمدية فيما تخفي حوافرها تحت ملابسها الطويلة الفضفاضة تحرجا لترجع قرب الصباح الوشيك إلى مثواها الممل
مضينا معه رتلا يؤخر ويقدم , نبضا موحدا متسارع داخلنا , واجفون مأخوذون نتحين المرائي والتمثلات التي تُرى بلمح البصر , نتوهم الأصوات المتحشرجة , نحذر من قرب سدول الظلام
لعبنا مع الجراء من بعيد معجبين بألوانها واكتنازها وتشقلبها على بعض تنافسا للرضاعة , ننظر برعب إلى الكلبة الأم المزمجرة مكشرة عن أنيابها خوفا على جراءها متناسية صداقتها لنا , نتأمل المكان الذي ندشنه بحضورنا الأول , نتفحص عن كثب ناصر صانع الأعاجيب بإعجاب شديد , نحك كثيرا مثل أي كلب أجرب , ثم يزداد حكاكنا وهرشنا لننتبه للبراغيث تغطينا , تُعتم ألوان ملابسنا الصيفية الزاهية, نخرج نتراكض صارخين نتقافز من وقع قرصات البراغيث ليتلقفنا الطيب المفزوع ينهرنا بهدوء مطمئن بعد ان يستوعب ما جرى , يأمرنا بالصمت ليدخل البيت المفتوح الذي تغيب عنه الأمهات والشكر لله - متذكرين شباشبهن اللاذعة للمؤخرات وتوبيخهن الذي يطن في الأذان لأيام طوال- في زيارة لقريبة نفساء تسكن خارج الوسعاية - يُحضر بخاخ المبيد الحشري , يبخنا مغمضي الأعين مكممي الأنوف متمتما لنفسه أشياء عن شقاوتنا والحبال المطلوقة على الغارب والوقت الثمين الضائع في حضانة العيال الذين تتلبسهم الشياطين
طيبته لا مثيل لها , صبره فائق , كان يجلس لساعات يفكك الحروف من لغة غريبة لينقلها إلى لغتنا في كتب كان ينشرها على حلقات في الجريدة الواسعة الانتشار التي يجلبها الكبار , يتحلقون حولها يقرؤها احدهم , يستمع الآخرون هازين رؤوسهم , متمتمين بعبارات تنم عن الاستحسان وتحليلات نعجز عن فهمها حين يهدنا التعب فنتوسد ركب أمهاتنا نغالب النعاس , نراقب الهوام والحشرات تتزاحم على المصباح في فناء البيت الذي تسقفه عريشة العنب وتتسلق على جدرانه الياسمينة الشامية ذات الأريج الذي يتسلل لأحلامنا فلا تعود مثل أحلام الآخرين
كان يخلق مما يعجز عن قوله مباشرة مدارة لأخطاء الآخرين وحسن طبع منه مسرحيات زاخرة بالعظات الأخلاقية والدروس المستنبطة من معاركة الحياة , كانت مربوعته تزدحم بالمسرحيين والكتبة والممثلين , نختبئ وراء خصص النوافذ المطلة على مجلسه , نتلصص عليهم , نبحث عن شبه بينهم وبين جلاس الاستراحة القدامى رفاق والده لابسوا الطرابيش محتسوا الشاي باللوز الذين استجلبنا ذكراهم , أصواتهم , وقارهم في حلقة أيدينا وقلوبنا المتماسكة
كان يعرف إننا هناك , يعرف إن البنت الشقية الوحيدة المسموح لها بحضور المجلس تختبئ وراء الستارة بعد أن صرفها حين اخذت تلفت وجهه بيدها نحوها طوال الوقت وهي تجلس على ركبتيه متسعة العينين مبتسمة بخبث لنا , لا تريده أن يتحاور مع الآخرين استئثارا به . أزعجه تملكها والغرغرات اللغوية الزهراوية التي تلجأ إليها حين تعييها الحيل , تمد أصابعها الطويلة , تتشقلب مثل المهرجين , , تقلب جفونها ليبين باطنهما الأحمر , تُجحظ عيناها تستدران اهتمامه وضحكات الضيوف, كان يلمح قدميها المعفرين في الحذاء المتهرئ مقدمه- من ملاحقة " البرنجية" وركل الأحجار بحثا عن العقارب - خلف الستارة حيث تختبئ فيبتسم حنوا
يا لصبره لم يركل ناصر مثلما يفعل الآخرون حين يؤتي واحدة من أفاعيله الشقية - ناصر العارف لكل شيء , الملم بكل تحركات المخلوقات على اشكالها في زرائب وإسطبلات وأعشاش الوسعاية والسانية ,- حين أقنعنا لنري الكلبة التي ولدت جراء قال إنها تختبئ بين كتب الجد الأكبر العتيقة ذات الرائحة الغريبة في المخزن المتاخم لجبانة الرعب . كانت الصناديق تحوي علوما صوفية وما ورائية قرأت الشقية ذات مرة بعضها خلسة قبل أن يخفوها عن متناولها في هذا المكان المرعب , وقت اكتشفوا فعلتها بعد إن ساورتها حمى غريبة و هلاوس واقشعرار بدن تلبسها من بعض الكتب في تحضير الأرواح ومكالمة الموتى وتسخير الجان وغيرها من علوم صفراء حاولت تطبيقها , ليقرؤوا عليها القرآن ويكبروا في أذنيها طويلا قبل أن تستفيق من غشيتها وتبل من حمتها
تيبست أرجلنا وتعثرت في تحفزها فيما وازنت أنفسنا الأمارة بالمغامرات بين إغراء الجراء المكتنزة , وبين مخالب الموتي الأخذة بتلابيب السابلة الذين تخونهم أرجلهم وتقترب بهم في غفلة نحو القبور التي يرى على بعضها- في بعض الأحيان حين ينكشف النظر- ملابس مغامرات راقديها الليلية متروكة على الشواهد بعد أن تنكرت بها للطريق تستوقف العابرين من مقاهي البياصة والسينمات المتناثرة , تركب معهم في سياراتهم تثرثروتتبادل معهم أخر الأخبار والإشاعات لتزيل مللها ووحشتها السرمدية فيما تخفي حوافرها تحت ملابسها الطويلة الفضفاضة تحرجا لترجع قرب الصباح الوشيك إلى مثواها الممل
مضينا معه رتلا يؤخر ويقدم , نبضا موحدا متسارع داخلنا , واجفون مأخوذون نتحين المرائي والتمثلات التي تُرى بلمح البصر , نتوهم الأصوات المتحشرجة , نحذر من قرب سدول الظلام
لعبنا مع الجراء من بعيد معجبين بألوانها واكتنازها وتشقلبها على بعض تنافسا للرضاعة , ننظر برعب إلى الكلبة الأم المزمجرة مكشرة عن أنيابها خوفا على جراءها متناسية صداقتها لنا , نتأمل المكان الذي ندشنه بحضورنا الأول , نتفحص عن كثب ناصر صانع الأعاجيب بإعجاب شديد , نحك كثيرا مثل أي كلب أجرب , ثم يزداد حكاكنا وهرشنا لننتبه للبراغيث تغطينا , تُعتم ألوان ملابسنا الصيفية الزاهية, نخرج نتراكض صارخين نتقافز من وقع قرصات البراغيث ليتلقفنا الطيب المفزوع ينهرنا بهدوء مطمئن بعد ان يستوعب ما جرى , يأمرنا بالصمت ليدخل البيت المفتوح الذي تغيب عنه الأمهات والشكر لله - متذكرين شباشبهن اللاذعة للمؤخرات وتوبيخهن الذي يطن في الأذان لأيام طوال- في زيارة لقريبة نفساء تسكن خارج الوسعاية - يُحضر بخاخ المبيد الحشري , يبخنا مغمضي الأعين مكممي الأنوف متمتما لنفسه أشياء عن شقاوتنا والحبال المطلوقة على الغارب والوقت الثمين الضائع في حضانة العيال الذين تتلبسهم الشياطين
يتبع
ليلى النيهوم
painting by Linda Paul