Thursday, March 29, 2007

ابنة الطائر الطنان


Jeff Mihalyo"Hummingbird Boat"5.75" X 5.75"oil on pine2004
استغرقت كتابة رواية (ابنة الطائر الطنان)الحائزة على جائزة كيرياما للكتاب عام2006 م وهى الجائزة التى تستهدف كُتاب نطاق االمحيط الهادىء- ، استغرقت من مؤلفها الكاتب والروائى والشاعر والقاص المكسيكى حوالى 20 عاما ً من البحث التاريخي والثقافى والروحى لتكون جاهزة للنشر . وهى رواية تمتد لعدة اجيال لتعانق في مجملها روح تاريخ المكسيك الشديد الثراء والاضطراب ايضا.
ويقول مؤلفها لويس البرتو اوريا في حوار اجراه معه لاورو فلوريس استاذ الكرسى بقسم الدراسات العرقية بجامعة واشنطن لمجلة ووتر بريدج عن سبب كل هذا الوقت الطويل لينشرها قائلا : لعلها استغرقته اربعين سنة ، لو حسب الزمن الذى سمع فيه لاول مرة قصص تيخوانا هذه عندما كان في العاشرة من عمره ، غير ان ابحاث الرواية بدأت فعليا ً في عام 1985 م ، ولايمكنه الجزم بأنه قد بحث ونقب يوميا او كل اسبوع او كل شهر او كل سنة ابدا ً ، فقد كان ديدنه ان يبحث عن نصوص ومواد، ولطالما مضى به البحث بعيدا ً، حيث كانت تؤدى عملية البحث الى بحث آ خر وهكذا . ولوقت احس كأنما تلك النصوص تتوالد بصورة سحرية ، معلومات عن تيريستا التى طالما لفها الغموض والخفاء في الماضى ، كما كان من الصعب في اوقات اخرى العثور على اثر لها ، ولقد كان بصورة او اخرى كانه عمل تحريات ، إذ يقود مصدر خفى الى مصدر آخر اكثر خفاء ً وكان عليه في كل ذلك لملمة الخيوط المتبعثرة والخفية والمُتشابكة .
وقصة تيريستا تقع احداثها قبل وبعد القرن العشرين في المكسيك ، تلك البلاد المفعمة بالحياة والمحتقنة وغير المروضة التى كان يقطنها دونات اغنياء متعلمون وجنود مكسيكيون و ثوار بواسل وعمال مغبرون وهنود الياكى والمايو الفقراء ومطببون روحانيون وساسة فاسدون. مع الكثير من التفاصيل والمرح الممتع .في خضم كل هذا وفى خضم هذه الجوقة من الشخصيات المنتظمة في سير حثيث نحو ذروة روائية هائلة يقدم لنا اوريا" تيريستا" ، لب الحكاية والشخصية الرئيسية ، تلك البنت الهندية التى ولدت لأم من هنود الياكى ، تبلغ الرابعة عشر من عمرها تدعوها قبيلتها الطائر الطنان
بعد ولادتها نفرتها امها لتربيها خالة سيئة الخلق ، فتنشأ تيريستا في مزرعة الثرى – الدون توماس أوريا- الجد الاكبر للروائى في ولاية سينولا المكسيكية ، تقوم القابلة والشافية هولا بالاعتناء بالبُنية ، هولا التى يخشى الجميع ويعجبون في آن بقواها السحرية بمن فيهم الدون توماس الذى تعمل لديه ليتضح مع الوقت ان البنت تتمتع بالقدرة على الشفاء ، وهى هبة ورثتها عن جدتها
- ((كانت جدتك مضحكة ورثت مقدرتها من امها)).
- ((أية مقدرة ؟ )).
- ((المقدرة الوحيدة ، ايتها الطفلة، التوليد ، وفن النباتات، تلك الهبة)).
هولا المُطلعة على الاسرار وعلى سر تيريستا ، تعرف ان قدرا ًاعظم ينتظر البنت ، إذ حا لما بدأ شبه البنت بعائلة اوريا يفتضح ، تحمل الدون توماس - الشهير بعبثه- مسؤلياته كونه والدها فأحتضن تيريستا في قلبه ومنزله . وكانت هولا التى تـُعلم تيريستا اسرار النباتات والسحر ، تراقب قواها الشافية العظيمة آخذة في التزايد والتركيز ، حيث كانت الحرارة الشافية تنبعث من كفيها ، فيما تنحنى لتتعلم الاحساس بحياة النباتات وان تحلم حلماً ليس حلماً وأن تدخل فيه . تتعرض تيريستا في السادسة عشر من عمرها للإغتصاب ولضرب مُبرح تموت إثره مُباشرة ، ثم تنهض فجاة من موتها اثناء السهر على جثمانها كما جرت عادة قومها على ذلك ، لتعم انباء معجزة عودتها للحياة وقواها الخاصة ويصل إ نبعاثها الاعجازي وقواها الخارقة الى ذرى جديدة فيتقاطرآلاف الحجاج على المزرعة لرؤية الشافية المُعجزة عن كثب، البنت الميتة الحية، وللتبرك بها والتعالج على يديها، كُلٌ مدفوع برغائبه الدينية والسياسية والشخصية
وفى عمق الخط الروائى اثناء دعوة تيريستا الروحانية ، يرسم اوريا بلا قصد إضطراب ذلك الزمن والازمان التى تليه ، فقد ارسلت الحكومة المكسيكية التى يرأسها دياز قوات لقتل الهنود المتمردين فيما باع الوطن لاجل ذهب الياكى وطمعا ً في اموال الاوروبيين ، ولمعرفته ان الدون توماس يعارضه ويحكم قبضته على الولايات المحيطة بسينولا يحاصرها مما يضطرالدون توماس الى التراجع من مزرعة الى اخرى ، في الوقت الذى يضع فيه الناس قوى تيريستا في مرتبة قدسية ، لتصبح تعرف بالقديسة كابورا فتكون حافزا ً لتغيير مصير بلدها بالرغم من عداء الكنيسة الكاثوليكية لها. كما يستغلها الثوار لاغراضهم السياسيةفتنتهي مقتولة على يد دياز وحكومته
يقول اوريا الذى كتب قصة عمته الكبرى تيريستا انه ذهب الى اريزونا عام 1995 م ليكون من جانب اقرب الى شعب الياكى ومن جانب آخر ليُتاح له الدخول في تاريخ مجتمع اريزونا ، لينفتح له عالم الكوراندريون والشافيون ، فيتأكد له ان المادة التى تعنيه كثيرا في هذه الرواية ليس بالامكان تعلمها من كتاب او لفات ميكروفيلم مطلقا ، فقد تطلب الامر منه سنوات ليفقه كيف يكتب هذه الرواية ، فلم يكن حينها متعمقا في مهنة الرواية او معروفا، ولكنه ايضا وحسب كلام الكوراندى هو ابن القديسة ، وكان السؤال : كيف يمكنه قص سيرتها؟ وان يلملم تاريخ اسرته ويتحلى بالكبرياء اللازمة لإدعائه وترجمته في واقع روائى ؟ وكيف يمكنه ان يمثل شعب المايو؟ وكيف يتعلم التاريخ المكسيكي وهو الذى عاش بعيدا عنه في امريكا ومن ثم جعله تاريخه؟
لقد امضى اوريا وقتاً كافيا مع الشامانات السحرة الشافيين ليصدق ان تيريستا لاتزال موجودة في مكان لا يُرى ولايُحس ، فكيف يروى قصتها بأمانة؟ وصدق؟ وإعتناء؟ هل عبر نص تاريخى ، ام ادبى ؟ ، كانت الاجابة المطلقة بالنسبة له ان الادب يكون اصدق من ناحية عمق الروح ، اكثر من انواع الكتابة الاخرى ، فبمقدور الادب وحده ان يضع القراء في الحلم
وكانت امامه مُشكلة الخوف من الانغماس في الذاتية والخوف من ان يؤذى اسرته وهو الخلوق الاصيل ، وليس بسبب البوح بالاسرار الاسرية الخفية وانما بسبب انه اقدم على كتابة هذه القصة بالذات وهو ما يعده جسارة لايُحسد عليها
وهو يقول ان القراءة ثم القراءة ومن ثم ايضا ً القراءة هى المنفذ الى اين يجب ان يبدأ أى بحث ، فقد افادته في تمييز الحقائق من الاخطاء التاريخية والتلفيقات المتعمدة في الكتب المهمة كما بدأ فعلا يتعلم كيف يدرك الاشياء التى تتعلق بالموضوع الذى يشبعه بحثاً ، كما ان اللجوء الى الاسرة وذاكرتها امر ساعده كثيرا في كتابة روايته هذه ، ألم يحتسى في سبيل ذلك كميات هائلة من القهوة واكل الكثير من التامالا الخضراء والمينودو حد التخمة وجلس في الكثير من المطابخ رابتا ً على كلاب الاقارب ومستمعاً لسيل الحكايات؟
وإذ يرى بعض النقاد ان روايته إمتداداً للواقعية السحرية اللاتينية ، يحس اوريا بالفخر والشرف ، فقد بالغ النقاد حسب قوله- اذ قالوا انه اعاد احياء الواقعية السحرية - كما ولدهشته العميقة عده بعضهم وريثا لغابرييل غارسيا ماركيز!! ، فإن يقارن بماركيز العظيم ، ذلك شرف عظيم لدرجة انه من الافضل الا يتحدث عنه
ويحكى عن التغيير الكبير الذى حدث له في سنه الثامنة عشر عند إكتشافه لعالم الكُتاب اللاتينيين العظام السحرى ، غابو - ماركيز بالطبع- وبورخيس ونيرودا وكورتا ثار وفارغاس للوسا وغيرهم كما كان مصدوما في ذات الوقت ، كان الامر مربكا فقد اراد ان يسافر عبر الزمن ويتزوج الفونسينا ستورينى وان يفطر مع غابرييلا ميسترال ، كان مرعوبا من خوان رولفو لدرجة الا يجرؤ على حلم الالتقاء به لذلك ان يتم ربطه بعمالقة الادب اللاتينى هؤلاء كان شيئاً رائعا في نظره
والغريب كما يقول انه لم يفكر حين بدأ الكتابة ، ان يكتب رواية((واقعسحرية)) الاسلوب ، بل كان آملا فقط في ارضاء شبح مالكولم لاورى ، وكان خائفا ان يتفطن الناس الى انه حاول سرقة روح رواية (( تحت البركان)) ، وهو يعتقد ان ((السحر)) في روايته حقيقى مائة بالمائة ، وهو حقيقة تاريخية ، إن كل معجزات تيريستا عمته وبطلة روايته موثقة بالكامل ، وثمة حقيقة تاريخية اخرى ان تعاليم هولا ومانوليتو مؤسسة على تعاليم اطباء قبيلة حقيقيين واخيرا فإن المقاطع في روايته عن الاحلام الغريبة هى في الواقع اعمال سحرية قام بها الشامانات السحرة له وعليه، وباقى الخيال الروائى في كتابه يتمثل في ماذا أكلوا على الإفطار مثلا
ويقول قد يُلاحظ تداخل العنصر الاسيوى بشكل ما في الرواية ، فإذا دققنا النظر فيما حدث لتيريستا نجد انه كان ثمة تدريب أشبه بالتاي- تشي ، بل بما يشبه ما يحدث في أديرة الزِن ، فيبدو وكأنه نوع ذو نشأة تعبدية فيما الطاقة تهمهم عبر هذه المادة ، ويمكن فقط في المطلق الاعتقاد بأن قوى تيريستا ذات علاقة بقوى التشى ، وكان قد ذكر سابقا مالكوكم لوري ، ولكن أكثر الحضور في هذه الرواية هم أسياد الهايكو إيسا وبوزون واونيسورا
ولان معظم وليس كل رواياته تقع في الحدود الأمريكية - المكسيكية حيث ولد في تيخوانا وعاش على جانبي تلك الحدود مما أثر في كتابته ، ويقول لو أن احدهم اخبره كيف يتخطى الحدود سيفعل ، فإن يشب المرء منقسما إلى اثنين بسبب سور من أسلاك شائكة يجعله يرى الحدود أينما ولي وجهه ، فثمة حدود كثيرة قائمة بين الذكر والأنثى وبين اليسار واليمين وبين الأسود والأبيض وبين الحنطى والأبيض وبين الحنطى والأسود ، لذا فهو لا يحب الحدود ، بينما يحب الجسور ، لذلك لا يعد نفسه كاتبا حدوديا ً بل بناء جسور ، ويعتقد أن الحدود مهما كانت تسعى لان توضح نفسها عبره ، فلديها روح هائلة معذبة ولديها وسطاء بمكنتهم أن يجعلوها تحكى بصدق
وبالحديث عن تيخوانا حيث ان معظم الامريكيين ينظرون الى تيخوانا كونها نكتة ، فيما يشعر المكسيكيون بالحرج من تيخوانا ، فهم يقولون ان تيخوانا لا تمثل المكسيك ، فيما يرى أوريا انه يحب تيخوانا فرغم انها سيئة السمعة ومدمنة للمال الامريكى ومدمنة للإثارة الامريكية ومدمنة للصراع المشين القائم على طول سورها ، وهى بكل خوفها ويأسها وبؤسها هى ايضا مجتمع الصداقة والامل والروح المتماسكة ، وسيتعلم المرء لو عاش سنة او اكثر فيها وسط جامعى القمامة الذين يعيشون في المقلب ، سيتعلم عن النعمة والروح الانسانية اكثر مما سيتعلمه طيلة ثلاثين عاما من اللعب في ملاعب الغولف والتنس
ومثله مثل الكتاب من اصل مكسيكى ((التشيكانو)) يوظف التبادل الللغوى بين الانجليزية والاسبانية ، ورغم انه كان ممنوعا في صغره من الاتجاهين ومن تلفظ كلمة (( تشيكانو )) فقد كان في نظر والده مكسيكيا ومولود في المكسيك وليس تشيكانو وكان عليه ان يتكلم اسبانية قحة ، فيما كان بالنسبة لوالدته امريكيا وان ولد بالخطأ في المكسيك وبالتالى عليه ان يتكلم انجليزية قحة! وكان يمكنه التحول بين اللغتين بإضافة القليل من الكلمات المكسيكية على سبيل المزاح ، ولكن اذا سمح للغة الانجليزية التدخل في لغته الاسبانية فسيكون هذا علامة على فشل مكسيكيته وكونه مكسيكيا ودلالة على عدوى هيبية وانه اصبح دخيلا
ثم اكتشف ادب التشيكانو بعد تخرجه من الجامعة ، غارسيا ماركيز ونيرودا ، كانا الاولين ، وتخيلوا حجم إندهاشه عندما اكتشف الوريستا ورودى انايا وريكاردو سانشيز ، كل تلك الثلة! كانت رواية (( بلوروخا إبنة الامة)) لالوريستا كعاصفة لغوية نارية ، فهاهنا كاتب ذكى جدا ، متعلم جدا وخطر الى اقصى حد وهو ليس مثلهم فقد كان مخلوقا فذا لامعاً ، وكانت لغته او لغاته مثل موسيقى الجاز وهل تصدقوا لقد كان مكسيكيا ومولوداً في المكسيك
مع الوقت لم يعد يرى في ذلك هوى تشيكانونيا او لاتينيا، إذ يعتقد انهم مباركون ليكون لديهم نظام لغوى هائل وعليهم ان يستعملوه ، وان كانت قضية محاكاة للواقع ، فلم لا؟ الناس يتكلمون كيفما يتكلمون وعلينا ايجاد الوسائل لتثمين ذلك
يكتب اوريا الشعر والمذكرات والقصص القصيرة والمقالة، والشكل الادبى الذى يفضله، غير تجارى وهو مزيج من النثر والمقاطع الوصفية والهايكو او الهيبون ، ولقد تخفى هذا الاسلوب كثيراً في اعماله وافصح عن وجهه في احد كتبه بالكامل ، ويرى انه اذا كانت الكتابة من الاشياء الجالبة للغبطة العميقة والاشباع الاعمق والمتعة ايضا ، فهى من وجه آخر ليست تلك التجربة المبهجة في كل الاوقات
وهو قد دُرب نظريا ونقديا على التحليل والنقد وخلق الادب وذاك ما تعلمه في الجامعة وهو ايضا ما يقوم بتعليمه في هارفارد. ويرى ان اجناس الكتابة الثلاث ، الشعر والرواية والمقالة لديه تنبع من نفس البئر داخله والتحدى الاكبر فيها ان يخبر الحقيقة المطلقة حتى وإن كان يكذب
ليلى النيهوم