لم أكن اعتقد بان اعداد لقمة القاضي أسطورة في حد ذاتها الي ان طلبت مني ليلى وصفة لقمة القاضي التي كانت تعدها امي رحمها الله والتي هي جدتها في الوقت نفسه، فقد كانت رحمها الله تشتهر بصنع لقمة قاضي لا مثيل لها بين الأنواع الاخري رغم بساطة إعدادها وسهولتها، وبالرغم من أن طريقة إعدادها أيضا عادية مثل غيرها، فهي لا تزيد عن دقيق وخميرة وماء
وبعض الإضافات الاختيارية الاخري، ثم ان الادوات التي كانت تستعملها أمي في إعدادها مازلت احتفظ بها وهي ادوات عادية ومعدات عفي عنها الزمن وطالها القدم، ورغم ذلك مازلت أحرص علي استعمالها لدقة مكيالها وسهولة استعمالها والاهم انها تمنحني زادا من الخير يدفع عن النفس أشجان الحنين، لذلك فان ما طلبته ليلى كان مختلف عما نراه نحن، فقد كانت تطلب لقمة قاضي بمساحة الود والمحبة كي تستمد منها ذكرى قلب اتسع ذات يوم لمحبتنا وضمنا بداخله، قلب قادر علي احتواء الكون ومن فيه بعطف سمح متسامح ، قلب قادر علي أن يمحو عن النفس وحشة الأيام ويقرب المسافات، كانت لقيمات امي مثل غيرها من اللقيمات لكنها تختلف عنها، فهي لقيمات تمنح القلب سلاما وتعينه علي استعادة نسائم الوطن وأحلامه، هي لقيمات تهدي النفس زاد دائم من سلام وسكينة تغني النفس براحة بال وتضفي علي الدنيا بهاء، لذلك حينما هممت بتزويد ليلى بطلبها اكتشفت بانني لا اكتب وصفة او طريقة عادية مثلها مثل غيرها من الوصفات، فما ان هممت بكتابتها حتى زارني طيف امي الباسم السمح وأعانني في اعداد تلك اللقيمات كانت يدها هي التي تعجن، وكانت أصابعها هي التي تزين وتشكل، حينها امتلاء قلبي بفيض غامر من أحاسيس شتي ما بين اشراقة فرح وتوق وحنين، فلقمة القاضي عند امي لها تداعيات عذبة في قلبي فهي تجسد جمالية قلب امي وفرحها بالشهر الكريم، فلكل يوم من هذا الشهر طقس خاص به وكل مرحلة منه ترتبط بشيء يميزه عن غيره، لذلك لم تتشابه أيام الشهر الكريم عندنا ولم تتكرر، فأوله رحمة ونور وفرح باستقبال أيامه ولياليه، لذلك كانت امي تحرص علي صنع أنواع كل العجائن التي تفرد كي (تفتح الشهر وتمد أيامه بالخير) كما كانت تقول، لذلك كانت تحرص علي ان يمتد في وجدانها بامتداد عجينة البقلاوة التي تفردها ورقة بعد ورقة كي تكون بدايات الشهر متسعة للفرح والهناء رغم صعوبة هذه المهمة ومشقتها، لكنها كانت تفرح بكل ورقة تفردها وتمسحها بحنان تجسد فيه أنشودة عذبة في حب رب كريم وشهر كريم، ولان أوسط الشهر مرحمة وصلة رحم وتقارب فقد كانت (تلمه) كما تخبرنا بلقمة قاضي تجمع عجينتها بين أناملها وتضمها بين راحتيها الكريمتين في دعوة خفية لنا ودعاء صادق كي يحمينا الله سبحانه وتعالي ويجمعنا علي الخير المحبة والود والمرحمة، لذلك تميزت أواسط أيام الشهر الكريم بكرم لقمة القاضي التي تتوزع علي الأحباب والأصحاب في دعوة ودودة للمشاركة الجميلة الناعمة والتواصل العذب الذي تتواصل معه عطايا امي النورانية لتصبغ علي أواخر الشهر فرح غامر بغفران وعتق من النار، فتتشكل حلويات العيد أمام أعيننا تبشرنا بقدوم عيد بهيج وتذكرنا كي نفتح الأبواب ومعها نفتح قلوبنا للنور القادم من ليال الربح والمغفرة، لهذا لم تتشابه أيام رمضان ولا لياليه، ففي كل يوم حكاية لطبق تعده، وفي كل ليلة أسطورة لحلوى تفرحنا بها، فتحيل بذلك الشهر الكريم الي مهرجان متواصل للمرحمة والعطف والجمال، والي مناسبة نتعلم منها العطاء الحق المستدام الذي مازال مستمرا معنا حتى بعد رحيلها الي خير جوار، لقد تركت لنا أمي أعذب ذكريات العمر وأصدقها، وأوصتنا بعطائها دون كلم او حديث أن ننقل هذا الفرح والبهاء الي أبناءنا وأحفادنا كي تستمر أسطورة العطاء بيننا وكي تتواصل ذكرى جيل بأكمله استطاع ان يمنحنا قيم العطاء الحقة التي لا تنضب
سكينة بن عامربنغازي: 14 /9/2008
سكينة بن عامربنغازي: 14 /9/2008