Tuesday, March 13, 2007



طائر نورس صغير
قصة : اسماء الاسطى
كاتبة وباحثة ليبية




عليلة كانت تزورنا في بيتنا، نحيلة وضامرة كعنزات عمي "الفزاني" الذي يتخذ من شاطئ البحر مرعى لقطيعه، فيقتات من الحشائش المالحة، وما ينبت من بذور (الدلاع )والطماطم مما تساقط عن غير قصد من مصطافي الموسم الفائت، ناميا كاخضرار مؤقت على ضفاف الشط، تختبئ فيه كرات ضامرة صغيرة تشبه الطابات المتلقفة ما بين الدفوف الدائرية التي تلهو بها الفاتنات الإيطاليات في مصيف (الليدو) المجاور، وهن يتقافزن في إيقاع منتظم، بملابسهن البحرية الزاهية، وقبعات القش ذات الأشرطة الملونة.كان قفطانها (اللانيتة)المجدول أكبر منها، تبدو من تحته حشوه مكتظة من الثياب في طبقات متتابعة، تظهر حوافها من فتحة الرقبة، ومن خلال ثني أكمام رسغها الرقيق، ينتهي تحت الركبتين، ليبدأ سروال قطني ذا زخارف منمنمة يغطي ساقيها النحيلتين في اتساع، منتفخا في دائرة عند موقع الركبتين، وينثني في كرمشيهما خلفهما، منتعلة في قدميها الصغيرتين شبشبا بلاستيكيا أزرقا، يظهر من فراغاته وتنسل من زخارفه جوربها الصوفي الأحمر.شعرها مغرق في الزيت الغرياني، ينقسم في منتصف جبهتها إلى قسمين متساويين، ملضوم في ضفيرتين متناظرتين تماما، ينتهيان بشريط أزرق منكس النهايات، معقود بحزن يشبه خطواتها البطيئة، وصوتها الخفوت المختلط بصفير منتظم من رئتيها، ولهاث مرهق من قلبها الصغير.
مساء الخميس، فبل أن يرتقي عمي "جمعة" جبل مدينته، يوصلها بسيارته إلى قبالة البوابة البحرية، تترجل محتضنة صرة ملابسها المشبعة بروائح المستشفى، تضوع بما علق بها من أدوية وشحوب، نهرع لمساعدتها في ارتقاء الدرج درجة درجة، تتناسب وبطء حركتها، ولهاث قلبها الضامر.تتلقفها "أمي" بحنان مبالغ فيه، وتحيطها بعناية فائقة، تحذرنا من مغبة إغضابها، تمنحها الحلوى المخبأة، والشرائط الملونة والنقود، تفاجئها بما حاكته لها من ثياب ودثار وجوارب صوفية، تغلف جسدها النحيل بالدفء، وتمنع عنها برد الشتاء البحري القارص.تغلق "أمي" النوافذ بإحكام لئلا تمر نسمة باردة يسعل لها القلب الصغير، يداعبها "أبي" بلغة إيطالية تمنحها فرصة استعراض حصيلة ما تعلمته من راهبات المستشفى اللاتي تعيش معهن أكثر من الوقت الذي ترى فيه خالتي "نوارة" أمها المنشغلة عنها بسواها من الصغار الضاجين ، اللاهثين بالصحة والعنفوان.تنهي استعراضها القصير بفتح صرتها لأخواتي الكبار حتى تتمتع بروية علامات الانبهار على وجوههن بما تصنعه في ساعات يومها المرضي الطويل، من نتاج فراش قلب عليل، ما تعلمته من إحدى الراهبات التي تقصقص الشرايين البديلة لسكب الدواء في عروق المرضى، إلى قطع صغيرة تمرر فيها خيوط الصوف الملونة؛ فتتحول إلى مشدات مبهجة للشعر، ذاك أمر وحيد ينتبه له الجميع منها ثم لا شيء غير الصفير المؤلم واللهاث لقلب يسارع الخطو نحو المجهول.الريح تصفر من خلال شقوق النوافذ البحرية، فيصدر عنها عزفا غامضا ينتج عما يقابله من صفير شقوق الجهة القبلية، والموج اللاهث يتابع في اللحاق بمن سبقه على الشط، إن مبيت "نعيمة"ليلة الجمعة يدعو "أمي" لأن ترشوني بالحلوى كي أتنازل للمريضة عن سريري، وأفترش عوضا عنه فراشا صوفيا أسفله، تدعمه بدفء من أحد معاطف أضاحي الأعياد السابقة، وعندما يعم الظلام بيتنا تتسرب من الممر الطويل خيوط ضوء تنعكس على أرضية الغرفة الغارقة في دفئها.استشعر البرد وحدي، فأخواتي نيام، لا يسمع لتنفسهم المنتظم الخفوت صوت، بقدر ما يعلو من صدر مثقل بالثياب والأغطية المضاعفة التي تعبر بها "أمي" عن حنانها وتعاطفها، بعدما حمت الجسد النحيل في( الليان) بالماء المغلي، وافترشت له الحصير، وأزاحت له السجاد، وعفرت الغرفة بالبخور المنبعث من موقد الفخار، لتجفف شعرها وتحرق ما جرفته الأمشاط الدقيقة من حرثها الأسبوعي في ألسنة اللهب المتصاعد بم أذكته ريح الشط المتطايرة في النافذة البحرية، فتناثرت لها شظايا الفحم كمهرجان للألعاب النارية.أرقبها وهي تغط في نوم يتأرجح بين صفير ولهاث، والريح والموج يواصلان سباقهما الشتوي، الذي يزداد حدة في الليل، يختلط الصفيريين و اللهاثين في سمعي، يعم البيت هدوء ساكنيه، يصارعه صفير النوافذ ولهاث الموج، مع صفير رئتين ولهاث قلب ضعيف.كوعاء من البلور هي، تلك التي لا تقف في وجه ريح الشط من النافذة، ولا تقفز الدرج اثنتين، لا تلعب (النقيزة) برجل واحدة، ولا تجلس على أرض عارية، ولا تمشي فوقها حافية، تحتمي خلف أكوام الصوف والدثار كلما لاحت لي لعبة مسلية، آه كم هو ثقيل يوم الجمعة في وجودها المثقل بالموانع والمحاذير والصفير، مغادرتها فتح للمغاليق، وبدء للتجول، واسترداد للدفء؛ الذي لا يخرقه صفير يبعد النوم عن أجفاني.أنا لا أعرف كيف يموت الناس دون غرق في البحر الهائج؟ أو في شط يلفظهم غير ذاك الذي ابتلعهم فيه؟ خاصة من لا تطأ أقدامهم المغلفة بالجوارب رماله المبلولة، لكني ذات ليلة رأيت "نعيمة" متحررة من كتل الثياب الثقيلة، وقد أبقت على قفطانها المخبخب، وضفائرها تتدلى في مرح مزينة بشرائط "أمي" الملونة، بدت سعيدة، اقتربت مني وابتسمت، لم تتكلم، ولم أسمع لها صفير ولا لهاث، ثحلقت في فضاء الغرفة البحرية حيث أنام وأخواتي، وطارت كطائر نورس صغير صوب النافذة المغلقة المطلة على البحر