Sunday, April 08, 2007

اللامتعزي ومجاز الهيولى


اللامُتعزي أول رواية لكازو ايشيغورو منذ رائعته العالمية .." بقايا اليوم "1989 ، وهي بدورها عمل مفاجيء ومذهل لهذا الروائي الياباني إذ تتمطى في سردية لا توحى بشيء أكثر من كونها اضغاث أحلام فيها خلق المؤلف بورتريه لفنان أصبح قاصراً عن قياس المسافة بين حياته العامة والأخرى الخاصة
رايدر راوي الرواية ، عازف بيانو شهير يصل إلى مدينة أوروبية صغيرة غير مسماة ليقيم حفلة مهمة ، ولكن فيما تتواتر الرواية يصُبح جلياً أن رايدر لم يعَد يتذكر إلا النذر القليل عن أسباب زيارته ، وعلى ذلك ليس متوقعاً منه أن يقيم حفلة فحسب بل ومعجزة أيضاً . ليس أقل من إحياء كيان المدينة الروحي والجمالي
خلال الثلاثة أيام التي تسبق ليلة الذروة يقع رايدر في شراك حيوات ، ومطالب متوالية لغرباء ( كما يبدو ) لا يحصون : مدير فندق وعائلته المختلة ، بواب وابنته البعيدة وحفيده ، قائد او ركسترا ثمل وزوجته المنبوذة ، مواطنون مرموقون كثر، وآخرون بلا نهاية ، بما فيهم شخصيات غير لائقة من ماضيه ، جميعهم يظهرون ويختفون مثل أشباح غرائبية مزعجة في كرنفال لهو
في هذه الملاقاة والتجارب السوريالية ،يقدم ايشيغورو حياة الفنان العامة بتشابكها الميؤس في نسيج الحلم ، وفي غضون الإطار الزمني الممطوط بصعوبة ( ودائماً على عجلة مُلحة ) يجتاز رايدر خزانات مكانس تنفتح على حفلات كوكتيل ، غابات معتمة على أوساط مدن ، أزقة مدن خلفية تتحول إلى أفنية مزارع مهجورة
كما يحضر مأدبة عشاء فقط ليكتشف أنه لا يرتدي سوى مئزر حمام ، كما تحمل غرفته بالفندق شبهاً غامضاً مربكاً نوم طفولته ، ليصادف حطام سيارة عائلته الصدئ من أيام صباه في موقف سيارات أحد المعارض الفنية بالمدينة ! كما يخضع الأشخاص المشوهين والحمقى والمتضارين والسخفاء أذنا رايدر لأحاديث منومة تكشف حميميات حياتهم : أمانيهم - يأسهم - وشعورهم بأنهم منسيون أو متروكون في مدينة فقدت موضع روحها
ولكن في موضع ما في هذه الرواية القوية ، بين سطورها ، في هامشها ، بل في عمق نسيج أوراقها تكمن رواية أخرى تنتظر أن تروى ، أخرى عادية جداً ، ومخفتة في واقعيتها : حكاية ولد غير محبوب ومهمل فشل في الإيفاء بتطلعات وتوقعات والديه
في عملية تكثيف سحرية ، تتحول شخصيات اللامُتعزي تدريجياً لتُشابه صور مسلاطية مشوهة لرايدر نفسه ولوالده ووالدته ، ولمخاوف ورغائب طفولته ، فيما توحي مشهدية متاهة المدينة والأحساس الزِلق للمكان بتلافيف العقل اللاوعي الخفية لرايدر نفسه ، وأن هؤلاء الغرباء المقيتين هم بكل غرابة أطياف نفسية رايدر ، وأن روح المدينة التي يريدون منه انقاذها هي كما نتأكد لاحقاً روح رايدر نفسه
مهما بدت الأحلام غرائيبية في تخريجاتها فهي دلالة شعورية حين تحلمها . وكتابة إيشيغورو المكتلة تخلق هذا التأثير الضروري ، ربما لدى أي كاتب آخر قد تنزلق هذه الرواية النفسية الصعبة عن الحافة لكن إيشيغورو الذي إجترح فيها الكثير من لحظات الكوميديا والرثاء ، السخرية الجامدة الإعجازية وجعل نثره أعجوبة قاطعة وكتابته راقية ومضبوطة ودقيقة تسدل ستراً عقلانياً هفهافاً على تجربة القراءة العميقة المؤثرة خرج باللامتعزي إلى مقام الأعمال الجديدة المهمة
من جهة أخرى يمر أي مشهد مباشر من صفحات رواية اللامتعزي رايدر حين يأتي للمدينة ليقيم حفل حياته ليجد أن كل شيء في المدينة بل وكل شخص مربوط بحفل رايدر المرتقب وبكل التزاماته الاجتماعية العديدة الطارئة ، وأيضاً بمحتويات حديث برمج رايدر لإلقائه حول مدينة بالكاد يذكرها
والمشكلة أن رايدر أضاع برنامجه ، ومواعيده ، وأصبح مشوشاً محاولاً تخمين أهمية كل شخص يلقُاه . كل هذا القى رايدر في كوميديا أخطاء مثيرة
فقد نسى أهله حتى ساورته نفخة تمييز ، شيء ما أفاقه بلاشك ودلّه إلى الاتجاه الصحيح نحو ربكة أبعد ونحو موعد تالي ( مزعوم )
تحافظ الرواية على هذا التوازن المتقلقل للسرد الملتبس طوال المسافة إلى صفحة 424 عندما وبدون مقدمات يلوح الأمل في المستقبل ،فحفلة رايدر مقدمة بلا هوادة على حل مشاكل الجميع الحياتية المتراكمة وبكل رشاقة وإحكام الكواكب المتراتبة إصطفافاً لتخسف الماضي
ويقول الصحافي والروائي بيتر اوليفا في مقدمة حوار له مع ايشيغورو " إنها تلك اللحظة المخصوصة التي رغبت مناقشتها مع إيشيغورو ، هذه اللحظة الرائعة حين يجمع إيشيغورو كل استطرادت وانحرافات وخروجات السرد معاً في قبضة واحدة لكي يلكم بها كل تلك التوقعات المتفائلة بسخرية مميزة سوداوية ، للوصول إلى هذه اللحظة أدركت أنه علينا أن نخوض غمار تحولات ومكائد مدارك رايدر ، ولو لأجل أن تمنح للرواية سياقاً وخلفية ومنظومة قواعد . وقد يكون المكان في الرواية حزيناً ومضحكاً ولكنني مصر على إكتشاف كيف عنّ لإيشيغورو وواتته الجرأة أن يهشم الكثير من التوقعات السردية بكل تقصد واستخفاف ؟ "
وإجابة لهذا يقول ايشيغورو :" إن الرواية يفترض أن تكون مجازاً للكيفية التي يتخبط فيها معظمنا عبر حياتنا ، متظاهرون بأننا ندرك وجهتنا ، ولكننا حقيقة نجهل إلى أين نمضي . إن ذاكرة رايدر ، لا تعمل

بالطريقة المعتادة ، لقد حاولت فعل شيء غريب هنا ، حاولت أن أكثف الطريق التي يسير فيها بعضنا حياته في أيام قلائل . إذا أنها أشبه قليلاً بتجربة الوصول إلى نقاط معينة في حياتك لتجد فجأة عدة أشخاص ملتصقون بك ، متسائلاً وغير عارف كيف تورطت في هذا الموقف . أنه ذلك النوع ، بإستثناء أنه يحدث هنا حرفياً . أعني : أن الحدث صار هكذا . أردت أن استخدم ذلك النوع من عالم الحلم لأعبر عنه ، وأردت استخدام بعض الأشياء التي تحدث في الأحلام ، التي ظننت أن معظم الناس - في مستوى معين - متعارفين عليها .. لأنهم تفاعلوا في عالم الحلم لذا تحدث أشياء غريبة مثل تلك . "
ويضيف عن رايدر :" وهو أيضاً راوي كليّ المعرفة لدرجة غير موثوقة ، أنه كليّ في بعض الأوجه ، ولكنه محدد بلا معقولية في أخرى ، قد يكون متسرباً في ذاكرة أناس آخرين ، ولكنه لا يتذكر أدنى الأشياء وأبسطها ، أن تحدي كتابة هذه الرواية الحقيقي كان إستخلاص فعلي لمنظومة القواعد التي تحكم العالم الذي تقع فيه الرواية ، الأحكام التي تسري على الزمان وعلى السلوك الإنساني والاجتماعي في عالم هذه الرواية ، والتى تختلف عن تلك المنطبعة عن عالمنا الحقيقي . إن الذاكرة تنتهج طريقاً مختلفاً ، ولكن من المهم جداً لي وجوب وجود قواعد يريد القاريء أن يؤقلمها مع هذا العالم الجديد
يجب وجود هيكلية أو بُنية . لايجب أن يكون مجرد مكان بريّ يمكن أن يحدث فيه أي شيء
وعن الخروجات الاستطرادت التي تقاطع السرد : ذكريات الطفولة والاستطراد عند رايدر يقول :
إنها نوع من الاستطراد ، لكن الكلمة التي كنت استعملها في بريطانيا حين كنت أتكلم عن الرواية هي كلمة " إنتحال " لأنها ليست مجرد شحطات ، إنها أشبه بحلم ، عندما ترى شخص ما .. بائع الحليب مثلاً أو أي كان .. بائع الخضار ، شخص ما ينبثق في حلمك ولكن في الواقع يحل هذا الشخص بدلاً عن شخص أخر أكثر أهمية من ماضيك ، بمعنى آخر أنك تنتحل أشخاصاً تلاقيهم في الحاضر ليكونوا بدل شخص آخر متعمق في ذاتك في ماضيك وفي تاريخك الشخصي
هذا جزئياً ما يحدث هنا ، هؤلاء الأشخاص الذين يلتقيهم ، يوجدون في الواقع في هذه المدينة إلى درجة ما ، ولكنه يستعملهم بتلك الطريقة الغريبة ليخبروك القصةعن حياته لتتعرف عليه فعلياً وعلى والديه وطفولته وبالتالي ما يخشى أن يصبح
إنه لا متعزي ، ولديه هذه الفكرة بأنه إذا أصبح عازف بيانو عظيم لدرجة كافية وإذا قدم أعظم الحفلات على الإطلاق يوماً ما ، كل شيء خذله في الماضي سيصطلح ، لديه هذه الفكرة اللامنطقية ، وأعتقد أن الوقت كفيل بكشف أنه لايمكن العودة لإصلاح الأخطاء وإن الذي ينكسر يظل مكسوراً إلى الأبد
ليلى النيهوم