Tuesday, June 05, 2007


تصفر بها وفيها الريح
- 5 -

ما الذي لم نفعله وفعلته هذه النار المندلعة في هشيم ذكرياتنا , الراكضة شررا في بقايا ضحكنا ورذالات طفولتنا , الماحية مخربشاتنا عن الجدران , حروفنا عن جذوع الأشجار , شعاراتنا عن كل نخلة زرعت يوم مولد احدنا وُسميت له ودُست فيها أول خصلة شعر مقصوصة منا لكي ننمو طوال شامخين كرام مثلها؟
عندما ا استطالت قاماتنا قليلا واشتدت سواعدنا لحتى نرمي الحجر فيساقط لنا البلح الأحمر" البرلسي" من النخلة العالية التي نجمع على تفضيلها عن كل النخيل الاخر بشتى صنوفه, نتزاحم لجمع البلح والرطب السليم مما سقط تحتها محاذرين العقارب التي لها مثل ذوقنا تجذبها رائحة الغمق
بدأنا نحس بالفروقات بيننا في الملبس وفي الشكل وفي اختلاف الأسماء ودرجات القرابة , في ما اذا كنا من سكان الوسعاية أم نحُل ضيوفا معتادين عليها صحبة امهاتنا المتزوجات خارجها , في كوننا بنات وكونهم أولاد , في تبرمنا الجديد من لعبة الهنديان والكاوبوي والبنديتي والحلت والوابيس والسوبرمان , بدأنا نخجل من ركبنا المشوهة , مرافقنا المتقرحة بعد أن كنا نتسابق في نكأ الجروح وتقشير البثور والاستمتاع بذلك لحتى نتعمد السقطات والاصطدام بالاشياء لننال جروحا ننتظر يباسها بفارغ الصبر لنجلس في العشيات بعد ان يهدنا التعب نقشرها او نختبر درجة يباسها , نتوقف حين يخرج الدم متيقنين انها لازالت تحتاج يوما او يومان على الارجح لتطيب
بدأنا ننظر بنصف عين شاكة لقفزنا فوق الأسطح المشتركة , التسابق في اعلي البلاعيم والحناجر بيننا , اقوي صرخة طرزان دويا لحتى تهج لوقعها الطيور واليمام من الأشجار, ابتلاع قطع الحديد , عواء الذئاب في الليالي المقمرة تقليدا للمذؤب في الفيلم الذي عرضه لنا الخال في الغرفة المظلمة على شرشف الجدة الأبيض الذي علق على الجدار وتطلب الأمر لحظات ارتباك لتوجيه الصورة المنبعثة من جهاز السينما الذي اشتراه الخال براتبه المجزي , ذلك المذؤوب الذي تمنينا أن ينبت لنا مثله شعر علي أجسادنا الهزيلة وأنياب حاولنا تقليدها بباطن قشور البرتقال التي نحتناها بدقة , بإجادتنا قلب جفوننا , جرينا بهيئاتنا الجديدة وراء الصغار الخرعين
جاء وقت النظر في المرايا - إطالة الشعر بعد أن كان صبيانيا قصيرا , الصبر تحت وطأة امشاط الكبيرات والجدات , تحمل شدات التضفير على مضض فيما عقولنا التي مازالت تحن للشقاوات تحضنا على الفكاك , حان زمن مداواة الركب والأرجل والمرافق من آثار السقوط , خمش الجدران , وخز سل الجريد , جروح أغصان الأشجار , احتكاك الارجل والمؤخرات بالتراب الخشن حين التعلق الخفيض بالعربات القادمة والراحلة في غفلة عن سائقيها , تقشير البثور الممتع , محاذفة الأولاد الغرباء بالحجارة من فوق سور السانية المحمي بكسارات القناني المهشمة , المزنر بالهندي العدواني الأشواك , متلقين الكدمات التي نتأت بسببها جباهنا – نستنطق المرايا أشكالنا وما تحمله من إمكانيات تحول الضفادع الخضراء الناقة بلا هوادة إلى أميرات جميلات , والشعر المُصفر المقصف جراء الشمس إلى جدائل حريرية صقيلة ,و الوجوه الملوحة سمرة وخدوشا إلى بياض الثلج ,و أرجل الجراد إلى سيقان بضة ,و الإقدام الملتوية الأظافر إلى أقدام سندريللات رقيقات , والأصوات المتضخمة إلى همس ناعم
بدأنا ننتبه للبنات الهادئات اللاتي لم يشاركننا لعبنا قط , كن يقبعن وراء الأبواب المفتوحة في البيوت المتداخلة , يعشن حيوات وأوهام تختلف عنا , يطعمن الدجاجات والبطات , يجمعن التين والبلح , ينقين الزيتون الأسود المفضل يغسلنه , يغمرنه بالملح الخشن , يضعنه في زكائب الخيش , يثقلنه بالحجارة فوق الأمكنة المائلة لينزف مرارته , يساعدن الأمهات في صنع الخبز وتثقيبه بشعارات العائلة المتوارثة قبل إرساله معنا الى الكوشة - المهمة التي بدأت تسند لنا في عمرنا الوسيط الغامض المشاعر والأوهام - غسل الصحون , تنقية الرز , تعلم تبويخ الكسكسو مبدئيا في قدور فخارية من دورين بأحجام طفولية , الكيك في قوالب مصغرة صنعت له خصيصا في مصنع الحديد العائلي المتوقف في السانية الذي يشتغل بين الحين والأخر حسب نزوات الحس الفني لدى الأجيال المتعاقبة , لملابسهن المزركشة بالشرائط الملونة وغرزة عش النحل والخرابل , الأكمام المنفوشة , الشباشب اللامعة , الشعر الصقيل المجعدة اطرافه , السوالف التي تنزل حلزونية فوق الأذان الرقيقة ورائحة الصابون المعطر المنبعثة منهن أينما تحركن وأصواتهن الهامسة , ضحكاتهن المكتومة
. كانت البنت الهادئة أول اكتشافات تحولنا الجديد , بقينا في البيوت نراقبها , تعود كل يوم من المدرسة يصلنا سيل دموعها منحدرا من الباب الكبير مارا بالبيوت المفتوحة على بعضها , حتى بيت الطيب وصاحبة الحضن الحنون . نجري لنستطلع أخر تطورات رفضها لأسمها الثاني , إصرار المعلمين والمعلمات على مناداتها به يوميا وقت تسجيل الحضور والغياب , طقس كانت تعتبره تعذيبا لا يطاق , وهو السيل الذي لا يمكن ان يراه احد غيرنا بخيالنا الجامح , فيما يكتفي الكبار ذوي النظر المحدود برؤية دمعتان على خدها الجميل . كنا نحزن لأجلها ثم نناديها به نكاية حين تتنصل من اللعب معنا
كنا نراقبها دائما , نرى فيها مخلوقا غريبا يخشى الخروج والاختلاط , يكره أن تتوسخ قدماه بحبات التراب التي كانت تثير فيها الرعب . كم تمنينا ونحن في أوج شقاواتنا وأصواتنا المبلعمة أن نراها ولو في الحلم تختلس النظر إلينا من خصاص سور البيت الخشبي المشبك الذي تتسلقه الياسمينة الشامية وتجمم فيه نبتة اللنتانا بزهورها الشبيهة بمفارش الدانتيل التي تحبكها العمات لتتنازل ولو قليلا عن ملكوتها المختلف
كانت هاجسنا , أول بذور شكنا في حالنا المائص , في ألعابنا الصبيانية , تقف ظلا حائلا بيننا وبين استمتاعنا بحالنا . لم نجد لها شبها في كل قصص المغامرين والمغامرات التي قرأنا , ولا بين جميع البنات ما بين البيوت وباحة الوسعاية ودروب السانية
تجلس لساعات ترسم بالألوان المائية لوحات جداريه على أفراخ الورق الكبيرة الموصولة الى بعضها البعض بغراء مصنوع من الماء والنشا المطبوخ قليلا على النار- الوصفة التي سنجيدها مستقبلا وننتج من وراءها إشغالا يدوية ستنال استحسان معلماتنا وحسد زميلاتنا وغيرتهن - ترسم بلا ملل وجوه تشبه مغنيين يحملون أشجارا كثة على رؤؤسهم يسمون الخنافس , نساء شعورهن طويلة غجريات الملابس مكتظات الأساور والسلاسل , نوتات موسيقية , مفاتيح صول , كانت تلصقها على جدران الغرفة المتشققة
كانت تنهمك أيضا في أوقات أخرى في أقامة أعياد ميلاد لعرائسها , تحضر قوالب الحلواء المصغرة تزينها بالمربى , تخرج مبتعدة عن المطبخ , كأنها تعرف أننا سنعقبها لنلحس عوالق العجينة عن وعاء الخلط , لنخرج بعد قليل تفوح منا زفرة البيض المخفف ببشر الليمون ونقاط الفانيليا , لنراها جالسة في وسط الحوش تصفف شعر العرائس بعد أن البستها ملابس جديدة خاطتها بمساعدة الحنون من بقايا الأقمشة الزاهية الألوان التي كان الطيب يجلبها بشق الانفس , بالتقتير هنا وهناك في عوائد حلقات كتابه في الجريدة اليومية , لتخاط ملابس عيد للشقية والهادئة وأخواتها , من موديلات مأخوذة من مجلات الماني دي فاتا والبوردا
نقف في عتمة العريشة تنقرشنا ظلال ورق العنب , ترتسم على وجوهنا بين ضؤ وظل زخارف انعكاساتها ندعو الله أن لا تفطن لنا وهي تهمس لعرائسها التي اكتشفنا بينها عرائس لنا كنا قد مزقنا أوصالها وجعدنا ملابسها ونفشنا شعورها الصناعية لحتى تعجز أيما فرشاة عن تمسيدها تُسندر بين العرائس الأخريات مرممة , ترتدي ملابس جديدة , ينتظم شعرها في جدائل مُسرحة تزينها شرائط البارا الملونة , تبتسم من وجوه نظفت جيدا
تلتفت , ترانا كأنما عرائسنا المتحولات وشينا بنا انتقاما ., لم ينسين ما فعلنا بهن ونحن نلعب بهن بخشونة إرضاءً للكبار الذين أقحموهن في حياتنا الراكضة الرافضة لألعاب تقتضي الجلوس والصبر والمناغاة , محاولة منهم لإلهاءنا عن شقاواتنا المريعة , تقترب منا ونحن أقدام تتحين الإقلاع , ممتقعات ندرك ان الدخول الى عالمها يعني التخلي عن كل ما نحب وتكره هي , يجمدنا الإغراء في عتمتنا المنرقشة , يدوخنا عبق الياسمينة , يحمل ذنب تلكؤنا وعدم فرارنا من أمام تقدمها القدري نحونا
نحاول اللعب معها متحملات أوامرها لنا بأن نغسل إقدامنا ووجوهنا وأيدينا لتجلسنا بالدور أمامها تسرح شعرنا وتعقده – يا للهول - في تسريحات معقدة عالية , تجعد سوالفنا بمفك البراغي المحمي على نار الفرن لُتشم في أرجاء الوسعاية والسانية رائحة شياط سالف الشقية الأيسر, التي تحفزت في أخر لحظة للفرار من هكذا مصير ناعم قبل فوات الأوان راكلة سالفها المحروق ملتصقا بمفك البراغي الذي سخن أكثر من قدرة شعرها المقصف على الاحتمال. مطلقة صرخة طرزانية مروعة كانت وسيلتنا الوحيدة للتعبير عن غضبنا , كانت دموعنا الصوتية.
لم تتركنا الهادئة في حالنا , عششتنا في دماغها الذي يعمل على غير شاكلتنا وكأنها تتحالف مع الكبار او تنتقم منا ومن طفولتنا المشبعة الى اخر قطرة حيوية فيها , او لتعلن حين تدجننا سقوط معاقل شقاوتنا , انتصار منهجها الراكن للبيوت والمنصاع لباترون التقاليد
ظلت الشقية لأيام تنفش شعرها , تقربه من وجهها لتغطى الخصلات المحروقة , ُتلمح تجوب الوسعاية التي أصبحت تخلو في ساعات اللعب من باقي العصابة يلهيهم الشارع عنها او يلعبون في الزوايا القصية البعيدة عن البيوت قريبا من مجالس الرجال مع اولاد جيران سمح لهم لأول مرة دخول الوسعاية في محاولة من الكبار لابعاد اولادهم عن الشارع ومخاطره اخذا بسنة الجد . تعفر رجليها عميقا في التراب لحتى يكاد يصل ركبتيها , تتسلق شجرة المشمش في الجنان الملحق ببيتهم مطلة من بعيد بجوار الحرباوات الساكنات الشجرة على وسط الحوش البراني تراقب الهادئة من بعيد , تقلب الأفكار الشيطانية والخيرة معا , مرهقة الوجدان ووحيدة حتى تُعتم , ويحل المساء ,فيأتي الأولاد صغارا وكبار ليلعبوا الحلت والوابيس وال الآبيبا
لم يفطن لحالها احد غيري , ساءني ما تعانيه , أخافتني رجلاي الخائنتين اللتين أصبحتا تمضيان بي بعيدا عنها
واقرب مما يصح من الهادئة وتسريحاتها التي استهوتني وعكست عني وجها أحببته في المرايا

Photo credit:Bettina Hansen

No comments: