Monday, April 09, 2007

الرحلة العفوية - نجوى بن شتوان - The Spontaneous Journey

الرحلة العفوية

خطر في بالي وأنا خارج قريتي الصحراوية لقضاء أسابيع بحرية في (بوهريشيمه)[1] أن أكتب لك رسالة أجمع فيها كل مشاعري نحوك وأرميها لأمواج المتوسط تخبر العالم بها ثم ترجعها في قنينة حملت رائحة شفتي إليك، بالرغم من أنني خلفت ذكرياتنا ورائي في مدينة العجاج، تلك التي تعنى بتصدير التراب للعالم، ويعمل نصف الألف مواطن الذين يسكنونها في كنس أزقتها من التراب وجرف الرمال عن الدروب المحدودة المؤدية إليها لإخراجها للوجود

ومع ذلك القدر الهائل من الغبار استطعت أن اكتشفك وأحبك فيها، وأسكنك فسيح بلاغتي رغم ما ارتفع في وجهي من عصي، لتخترق من ثم غربتي وتحفظات رب العائلة الذي كلفته الدولة بشؤون بلدية هذه المنطقة المغبرة ونصف المرئية دائماً، فإذ أنت تجتاز المسافة العرقية بين عائلتينا وتؤسس لدم جديد وتخترقني كبحر يغمر يابسة

كانت المقشات والمكانس تسيطر على حياة هذه القرية التي بكت أمي يوم قرر أبي أخذنا إليها من مدينة تركض نحو التمدن، وكان مقدراً لي أن التقيك فيها مع أن مهنتك لم ترتبط بالكنس، فقد وجدت هناك قبلي لتنتظرني، أي وجدت لي بطريقة مختلفة بعيداً عن قدر اعتناق المكانس

دعني أقول لك أيها الأقرب إليَّ من وريدي والأبعد لعيني من غيب، إن أنقى مياه مالحة هي التي يحتجزها هذا المعتزل الأشبه بفضاء عبادة، والذي يقتسم روحه البحر والصحراء معاً، ويقطنه عدد ضئيل من بدو لم نرهم حتى اليوم، رغم إننا رأينا كرومهم الزاحفة المثمرة تستجدي القطاف، أي إننا لمسنا وجودهم من بعيد فقط، إن بحر هذه الناحية نظيف من الناس، والهدوء كبير ومخيف، يبعث على اتساع التفكير في الأزل إن أطلت البقاء فيه، ولا يوجد معنا إلا حشرات صغيرة غريبة استطاعت أن تقاوم الحر والفقر وتبقى بشكل ما أو إنها نفس تلك التي تعيش في القرى والمدن لكن حاجتها للتكيف هي التي حورت أشكالها وأحجامها على مدى طويل

ذهبت أمي تعجن الخبز داخل الخيمة، وتناول أبي الفأس ليجمع لها الحطب ويسجر تنور(الطابونة) المحفور في الرمال، أخذ معه أخي الأصغر ليعلمه كيف يقطع الأغصان الجافة دون إيذاء الأجزاء الحية من أشجار السدر القصيرة، فيما ذهب الأخرون للسباحة والبحث عن الأصداف الغريبة لتكوين مجموعة من الآثار المائية سيزينون بها صالون المنزل، لقد صحبوا معهم الصالون لأنهم لم يخلصوا أذهانهم للحياة البرية

أنا الآن لست بعيدة عنهم وهم يتقافزون في الماء ويعلو صراخهم في سماء بوهريشيمه الساخنة، حيث لا صوت إلا صوت الأمواج التي تتحرك منذ القديم وأصواتنا المؤقتة، وصوت حنيني الدائم إليك، وحركة مثيرة صامتة في أحشائي تشبهك وأنت على السرير بجواري، بدأت أحس بها في مكان لم يعرفنا من قبل ولم نعرفه، لا يشبهنا ولا نشبهه إلا في التصنيف الجغرافي الموحد لنا، لا اعتقد إننا مهما عايشنا هذا المناخ الصعب نستطيع أن نكون بصدق أهل له

أحد أخوتي يناديني الآن سأذهب وأترك أوراقي وقنينتي هنا كيلا يرونها فيعبثون بها، أقبلك حتى أعود، أقبلك حتى الفناء

وصلتنا رائحة الحطب في النار، لاشك بأن أبي أنهى مهمته وسيلحق بنا للسباحة ريثما تنهي أمي تنضيج الخبز، حينها ستنادينا لنأكل شيئاً ربما سيكون شكشوكة بالقديد، وربما شرمولة وجبن، والمؤكد أن الشاي الأحمر المنعنع سيكون حاضراً، أمي تطلب منا الابتعاد عنها خلال خبز الخبز لكيلا تثير حركة أقدامنا الرمال فتلتصق بالعجين، كانت تجثو على ركبتيها أمام الفرن الأرضي لتلصق الخبز بسطح التنور ثم تغطيه بمسطح حديدي عليه جمرات فتؤمن له استواءً تاماً

طيلة بقائنا هنا تهتم أمي بإطعامنا حتى أنها لا تنزل إلى البحر إلا لقضاء الحاجة أو الوضوء للصلاة، إنها تخصني دون إخوتي بالكثير من الطعام، فأنت لم تترك لي أحشاءً ضامرة، هناك فم غير مفتوح بعد ولا يلتقط صاحبه طعامه سوى مني، وأمي تعلم جيداً ما يحتاجه لذا كلما كنت بجوارها ناولتني شيئاً للأكل وكلما ابتعدت عنها خبأت لصاحب الفم شيئاً دون أخوتي

كان ثمة بئر صغيرة قريبة وغير عميقة من مخيمنا، فمن طبيعة هذه الأرض أن الماء المالح والعذب يتجاوران، وماء الشرب يمكن الوصول إليه على مد ذراع ونصف تقريباً، كان أخوتي في أوقات الفراغ يتشاغلون بالحفر للوصول إلى الماء العذب وكانوا يصلونه لكن أبى ينهى عن العبث بنعمة الله، أحد الذين اكتشفوا (بوهريشيمه) قبلنا وضع إطارات شاحنة كبيرة على فوهة البئر كي لا تواريها الرمال عندما تتحرك الرياح الرجيمة، ولأن للإطارات طبيعة مقاومة لقسوة الشمس الحارقة

استخدمت تنكة صدئة من تنكات شحوم السيارات كدلو لمتح الماء من البئر، كانت تحمل رسم صدفة ويغلب عليها اللون الأحمر، فتحت من أعلى وربط بها حبل، كما وضعت بالقرب من البئر بعض الصخور التي جلبت للجلوس عليها خلال غسل الأشياء أو الاستحمام

التقط أخي صدفات نحتها الملح والماء بشكل خارق، اجتمعنا نتأملها بإعجاب، لو إنك معنا ربما كنت لتعبر بشكل مميز عما فيها من فن رباني، تناولت إحدى القواقع وهمست فيها اسمي واسمك واسم طفلنا المنتظر، أحببت أن أفعل ذلك بشيء لم يلمسه مخلوق قبلنا، لكي تعرفنا روحه كما عرفتنا روح هذا المكان وأصررت أن تعرفك وإن لم تطأه معي

قال جامع الأصداف
ماذا تفعلين بصدفاتي؟
- جدتي كانت تهمس في الأشياء الجديدة دائماً وأحياناً تتنفس داخلها لتصنع معها علاقة مباركة فقط

جمع أخي أصدافه لصدره العاري وابتعد بها ليكلمها كلاماً لا يريد لأحد منا سماعه، عند الأصيل مشى أخوتي مسافات طويلة على الشط يبحثون عن بقايا المراكب العاثرة الحظ التي سمعوا عنها أو قرأوها في الكتب أو نسجها خيالهم، اختفوا عن الأنظار حتى شعرت أمي بالخوف والقلق وحاول أبي تهدأتها مستعملاً المنظار في تقصيهم، تركتهما يتحاوران وذهبت إلى البحر، قالت لي أمي وأنا أغادر الخيمة وفي يدي الورقة والقلم وقنينة ماء فارغة وكيس به فضلات الطعام

لا تبتعدي أنت أيضاً فالوحدة مخيفة، كونوا مجموعين

لكني ذهبت لأخلو بك واكتب مناجاتي اليومية لك قبل نزول الظلام، كانت الأمواج مرتفعة كأن شيئاً حدث للبحر هيج غضبه، رأيت الكثير من عقارب الماء الكبيرة تخرج للبحث عن الطعام، رميت لها بقايا البطيخ الأحمر والخبز المبلل، فالتقطته فرحة وركبت الأمواج، كانت سريعة وخائفة رغم شكلها المخيف عندما يتخيلها المرء تدب قريباً من فراشه بينما دياجير (بوهريشيمه) تبتلعه، كانت عقارباً بيضاء أو ذات صفرة وأحداق بلورية، لا تحمل بشرة هذه الأرض كأن طول مكثها في الماء سلخ عنها اللون الأسمر، لون ترابنا ومائنا وجلدنا، وكان قرص الشمس سبيكة أرهقت الباحثين عن الذهب، لامعة على نحو غير متخيل، وعرائس البحر يمشطن شعورهن لزفاف حورية متوسطية إلى سلطان الأوقيانوس العظيم

في القنينة وضعت ما كتبته وجعلت معه عنوانك، لعل إنساناً يلتقطها ويوصلها إليك، فيخبرك بغيرما لساني كم أحبك وكم اشتاقك في هذا المعتزل البكر الذي لم يتدخل فيه الإنسان، حتى لكأن زمن سابق استقطعه من أرضنا فحضر بجلال ورهبة

إنني أحبك أيضاً داخل هذا الزمن الغابر

كانت (بوهريشيمه) في الليل منطقة أخرى ليست هي التي نصرخ فيها وحدنا في النهار وتصمت في وجهنا وتدفن حلقها وتغرق وجهها المخيف كوجه ربان عثماني مخرها طيلة قرون وعبأها بالرعب والبول والدماء والفضلات، (بوهريشيمه) في الليل هي صمت مطبق يشف حتى يوشك أن يسمعنا ما وراء الصوت، وسفن شراعية تمخر ليل المتوسط وتتحطم وتغرق وتختفي بما تحمله من سبايا ورقيق وذهب وتوابل ومعادن وقصص واستغاثات يائسة وأسماك هامشية تمضغ على المدى حمولة تلك السفن، وتلتهي عن قنينتي السابحة أبداً باتجاهك

في بعض المساءات التي قضيناها هنا كنا نبتعد عن المخيم لكي لا يسمعنا أبي ونحن نغني أو نتنافس في الصراخ، ذات مرة غنى شقيقي فلكلوراً جعلني انتبه لجمال صوته في سرد تجربة حزينة تركت أثارها بقلبه الفتي
وكان القمر مذهلاً كطرف سيف فضة أسطوري .... بل إنه هبط بالفعل كمرآة عظيمة واغتسل في البحر على مشهد منا، عندما سمع الغناء


لو كان نشكى
للبحر بأسراري
تنشف أمواجه
من لهايب ناري
لو كان نشكى
يا عيني ياداي
***
آه لو كان نشكيله
بهموم قلبي
كلها نحكيله
تنشف أمواجه
بين يوم وليله
تبقا حماده خاليه وسحايب
لوكان نشكي
آه ياعين
***
ليش ليش
ليش الحيرة
يا قلبي لا تندم
واللي بدلك بالغير
بكره تلقا غيره
***
واللي بدلك خليه
بينه وبين الله لا تكافيه
لا ادوره ولا عاد تشقا بيه
الغالي رحل مخدوع في تفكيره
يا قلبي لا تندم.
***

هذه الليلة نتسامر طويلاً حول النار، أمي تعد الشاي وأبي يتكيء بجوارها وإخوتي يتحدثون في أمور متفرقة، وأنا يذهب تفكيري إليك، أمي بعد جلسة السمر والشاي تتلو تمائمها وادعيتها الليلية لتبعد عنا عقارب وهوام ولوام هذه الأرض غير المرئية وشر ما يخرج منها بالليل والنهار، تمرر سبابتها في التراب حول مراقدنا ثم حول الخيمة كلها، تالية آيات القرآن التي تحفظنا ونحن نيام، أما أبي فيمارس مهام حراسته الليلية، يأخذ مسدس 9ملي معه وينام في الجزء الخلفي للسيارة نصف النقل، بعدما يضعها أمام مدخل الخيمة، إنه يحمينا لآخر لحظة من أي خطر قد يسقط علينا من الأرض أو من السماء، يواجه (بوهريشيمه) كلها بما احتوت لأننا أولاده ولن يسمح لغموض هذه الأرض أن يأخذنا إلى باطنها منه، كذلك نحن أولاد هذه المرأة التي لا تنتهي أبداً من الاستنجاد بالله وبالأنبياء والرسل وصلاح البر والبحر، حتى ونحن نقضي عطلة نريدها مختلفة عن حياتنا اليومية، بل نزعم أننا نريدها وأنها ستكون مختلفة

في الليلة الأخيرة من مخيمنا، يهتم أخوتي بحصر ما جمعوه من أصداف وقواقع، وما وضعوه في علب المشروب من عقارب بحرية مختلفة الحجم ليرونها لأصدقائهم، بينما يتأكد أبي من معدات تخييمه ويتفحص اطلاقاته وأمي تؤكد لتارك الصلاة من أخوتي أن الله يراه هنا وهناك لذا فإن عدم معرفته بالقبلة ليست سبباً منطقياً لترك الصلاة، وأنه لو كان خالص النية لسأل أو تبع من رآهم يصلون، يتدخل أبي في الحديث بشكل مغاير للغة أمي قائلاً

- إن جعلت البحر في ظهرك لكنت مباشرة في اتجاه مكة، لكنك تعرف اتجاه مكة في بيتنا، لذا سترد ديونك هناك

كبير أخوتي كثيراً ما يخترق خطوط الحماية المتعرجة التي تضعها أمي، يخرج لسبب لا نعرفه ولا يخبر هو عنه، يذهب إلى البحر وحيدا،ً يغيب ملياً ثم يعود ويدخل فراشه وينام، الليلة قام باختراقه المعتاد غاب قليلاً ثم عاد يحمل قنينة في يده شدتني عندما لحظتها، قال لي

انظري وجدت هذه على الشط، يبدو أن الأمواج جلبتها

وكان يعرف العلاقة التي تكونت بيني وبين القنينات الفارغة هنا

أخذتها منه وفتحتها في الظلام فإذ بها ورقة، قفزت في فراشي أتلمس ضوءاً لمعرفة ما فيها، لكن قمر هذه الليلة يكتنفه السواد والرؤية ضعيفة، ونار أمي احتكر بقايا جمرها بخور الجاوي الذي خصت به سلاطين البر والبحر وصلاح المكان وهي تسألهم المناشدة والمؤازرة في جميع الأحوال، إيمان أمي بعدم وجودنا وحدنا في هذا العالم يدفعنا للإيمان بما تتصوره وهو غير مرئي حتى نتيقن مثلها إن للبحر والبر والسماء سلاطين ومخلوقات من غير جلدتنا لايمكن الهزء بها

لايمكن في هذه الحالة مزاحمة جاوي الملائكة والسلاطين وإشراك الصالحين في أمور ليست من مستواهم كقراءة ورقة في قنينة عابرة، لذلك لجأنا لسيجارة أبي نتلمس عندها فض المضمون

لم تكن الورقة الباحثة عن الضوء، سوى أولى الرسائل التي كتبتها لك منذ خمسة عشر يوماً في هذا المكان، لم تمسسها يد عندما لم تجد يدك، سأحملها إليك برائحتي وحرارتي وروحي الموجودة فيها، مثلما سيحمل أخوتي أشياءهم المأخوذة من شاطيء (بوهريشيمه) الرائع، ومثلما تتفانى أمي في كسب رضا الصالحين، وكأني وهم نلخص روح هذا المكان البكر كل ٍعلى طريقته لكي يسهل حملها وتحملها



نجوى بن شتوان
بنغازي13 /6/2006


[1] بوهريشيمة منطقة بحرية صغيرة تقع على الساحل الليبي وتبعد عن مدينة بنغازي حوالي 130كم



No comments: