Monday, May 21, 2007


تصفر بها وفيها الريح
- 3 -



لكن البنت الشقية التي تجيد الخيال والمغالاة في الخرافات والعلاقات الخيالية بأقوام من كواكب قصية والنبش في الكتب عن حكايات تسقط لها الأفواه فاغرة كانت ملاذنا للشطح والإغراق في الاقتراب من تخوم التمكن من اللاممكن . لم يكونوا ليجدوننا مهما علت نداءاتهم , مهما شط وعيدهم واستعرض أنواع العقاب المنتظرة . لو رفعوا أبصارهم فوق قليلا لكانوا رأوا ظلالنا تُسحبها شمس الظهيرة على الجدران المائلة من أسطح البيوت , نستلقي هناك نقرأ ما لذ وُمنع من الكتب الرهيبة الحاثة على المغامرات في الجزر المهجورة والسفن الجانحة والجياد الناطقة و الغيلان ذوات العين الواحدة والسندباد وسيف بن ذي يزن والأميرات النائمات والقصور المسحورة والمصابيح الملبيةلأصعب الأمنيات والفتيان الأشقياء والبنات الدلوعات الباكيات والفرسان الأربعة والجبابرة المحلقين المدافعين عن الخير
ظهرت عصارة كل قراءاتنا في صناعات شبه متقنة لسهام ونشابات من نخيل السانية ومقاليع واطواف من الجريد المجدول وتدريبات على صرخات طرزانية تخلع الفؤاد وفخاخ بدائية مبثوثة استأثرت بأصابع أقدام الكبار العائدين غافلين من العمل ينزون عرقا ويتضورون جوعا , ومزيدا من الثريد مسروق من مطابخ البيوت المتلاصقة المفتوحة على بعضها وشرا شف مختفية من الخزانات ومربوطة على أكتافنا الهزيلة وسلاسل من اكسسوارت الأمهات منفصلة عن بعضها ، مبتلعة بشهية لا تجيد الانحياز لزيت السمك الكريه ، كانت الشقية اوهمتنا انها تساعد على الطيران والتحلي بقوى جبارة ، وأرجل لايكفيها ما حل بها مكسورة من القفز من أعالي الخزانات في محاولات مستميتة للطيران كسوبرمانات خارقة
كلما جئنا كنت أتحفز في السيارة لا أطيق صبرا ، ما إن ندخل من الباب الكبير "الكانشيلو" أرهف سمعي واشحذ عيني باحثة عنهم أمام البيوت المتجاورة المفتوحة على بعضها ، كنت اجري قبل أن ينزل أهلي , إلى البيت المفتوح للجميع , الذي فيه اكبر عدد كراسي وأكثر صحون وأجمل الابتسامات واغلي حضن يضغط عليك كأنك أخر طفل في الكون ، يمطرك بالدعاء والقبلات الحانية ،

كنت ابحث عن البنت الشقية القادمة من كوكب الزهرة التي جنحت مركبتها اضطرارا في الوسعاية ذات يوم- ذلك لحسن حظها كما أتصور- تمضي يومها ترسل نداءات النجدة تخاطريا الى كوكبها من فوق أسطح البيوت المتلاصقة حين تمل من القراءة وحيدة قبل قدومنا , او في فترات العقاب الجماعي التي تطالنا حتى بيوتنا خارج الوسعاية وتباعد زياراتنا اليومية لها
كم استجديتها أن تعلمني لغة الزهرة , كم طالبناها أن ترينا حطام مركبتها , كانت تكتفي بابتسامة غامضة , فتأخذنا لنزحف تحت الهندي لنلتقط بيض اذكي الدجاجات القاطات , شريرة كانت تحمل جينات الدعابة الفضائية الشرسة , لكم يرتجف جسدي في الحلم من ذكرى مقلب الشوك ذاك
اجري إلى باب السانية الخشبي المتآكل , افتحه , أغمض عيناي , انزلق مع "الدردوحة" ترفرف الريح بشدقي , لايوقفني في انحداري اللذيذ شيء , لا أخشى أن اصطدم بشيء , تحفظ رجلاي الطريق الخال إلا من حشرات "حليمة الضراطة" غبراء الحمرة مرقشة بأسود كامد تتراكم على الأعشاب الزاحفة يميني ويساري
كنا لا نقترب منها إلا لنحاول أدراك مدى الشبه بينها وبين العمة الأخرى التي تسكن خارج الوسعاية و تتشابه معها اسميا , نخجل من الغوص عميقا في احتمالات الشبه الأخر ذو الرائحة , محرم علينا نطق اسمها في البيوت المفتوحة على بعضها , يأسرنا اسمها , يلتوي متمردا على ألسنتنا غصبا عنا كلما جمعنا مجلس مع العمة البيضاء البشرة الوديعة العينين , بملاءتها السوداء كلما حلت بالوسعاية ضيفة على أشقائها الخمسة المتجاورين, نقف فاغري الأفواه ننتظر اللحظة التي ترفع فيها خمارها لنبحث عن أوجه الشبه فيزل اغبانا بالاسم المحرم ليتلقي قرصة خفية موجعة وركلة واضحة تطوحه بعيدا ليغيب النعت المنفلت في ضجة الترحيب والأحضان والقبلات الكثيرة.
لم نكن يوما حفاة أو رثي الملابس , وما كانت تربة الوسعاية الرملية لتعلق بغير أقدامنا" تُحثرب " ما بينها وبين الأحذية أو الصنادل في هندامنا الصيفي الجزء الوحيد الذي يبلى بسرعة ركضنا . وعلى كثرتنا – بسلامتنا - كما تقول الأمهات ممصمصات شفاهن خوفا علينا من العين , كنا مثل الرز , أو الكراميللا ملونين بفرح التلاقي المتجدد , تلقى بنا السيارات وأبواب البيوت المفتوحة إلى جوف السانية , نبدأ بها نهارنا وننهي بها ليلنا , نتلمس فضولنا وخصابة خيالنا في ظلامها وظلال أشجارها وعتمة الجابية والاستراحة المهجورة التي نستشعر فيها صدى ضحكات وحكي آفل وخطوات تصعد الدرجات القليلة المتخلخلة المؤدية إليها , صوت حفيف ملابس على كراسيها الحجرية المبنية على استدارتها المصقولة من كثرة القاعدين عليها بعد ضياع طنافسها التي طالما سمعنا عن قماشها المجلوب من بر الترك والمخاط على يد العمات الطارزات , الحائكات الماهرات , مكتوب على جدرانها ذكريات الأجيال التي كانت ُترسل إليها من البيوت المفتوحة صحبة الأساتذة والأشقاء الكبار المتمكنين من المواد الدراسية للمذاكرة والتقوية . رسومات جادت بها أنامل الموهوبات في الرسم . معادلات رياضية عويصة سطرها الفخورون الذين دخلوا الفروع العلمية . حروف انجليزية وفرنسية زخرفتها المتنطعات الحالمات بالبلدان البعيدة . أبيات شعر من مقرارات المحفوظات , أخرى من الهام اللحظة . أسماء وقياسات اطوال قامات لأجيال من مستعجلو الطول وإنبات الشنبات والذقون . مخربشات غريبة تدرك مجموعتنا جيدا أنها مكتوبة بلغة الزهرة المحرمة علينا . نقيزات صينية وعربية مخطوطة بالطباشير والفحم على أرضيتها نقزت عليها أجيال متوالية من البنات وتعاركن وكسرنا إيقاع نقز بعضهن" بالشمبروخ والدجاجة العوراء التي تمشي وكراعها مكسورة" وكل التفوهات السحرية التي تجعل الاخري تخسر وتعفس على الخطوط الممنوعة فتخسر نقاطها ودورها , لتتقدم منافستها فيتعالى صياحها الحانق بالعبارة التي تقلب السحر اللفظي على صاحبته : "بار على السحار, بار على السحار " فتخرب اللعبة , تتطاير البرنجيات , تُثار زوابع الغبار , ينفض الجمع إلى حين تصفو النفوس بعد هنيهات قلائل ويعاود اللعب
كنا نمشي على حواف الاستراحة نوازن أجسادنا بأيدينا الممدودة , محاذرين السقوط في الجابية الجافة , أو نجلس متربعين على الكراسي الحجرية الصقيلة, نغرس ريش الدجاجات في رؤوسنا , النشابات والسهام في جعب على أكتافنا الهزيلة , نصيح صيحات الهنود الحمر , نزحف في طقوس سحرية لجلب المطر والتخفي عن الأعداء , أو نجلس في دائرة نمسك بأيدي بعضنا , نغمض أعيننا لنتخيل السانية في أيام عزها , الاستراحة حين كانت تغص بذوي الطرابيش يشربون الشاي باللوز , يتناقشون , يهزون رؤوسهم بوقار. أو نقف أمام البئر المردوم نحاول أن نلمح من خلال الثغرات بين الجريد والأحجار والصناديق المهشمة المرمية فيه ما رأته العجوز الرائية التي جاءوا بها زمان وقت ضاع العم في الصحراء التي يجوبها من شهر لشهر بشاحنته المحملة ببضائع التجار جيئة وذهابا من أم السباخ الى بر العبيد , وما بينهما , لتدلهم إن كان حيا أو ميتا , تصف لهم المكان الذي يستلقي فيه على كثيب الرمل في الرمضاء ينتظر رحمة الله وساعة الفرج وقطرات ماء , هكذا كما قيل تراءى لها على صفحة ماء البئر الذي كان بالنسبة لها شاشة رؤية في لحظة لا تخلو من سحر وطقوس محفوظة منذ أزمان غابرة , ليحلف الذين ذهبوا لنجدته إنهم وجدوه مثلما وصفته تماما!
وقد يتهور احدنا ويحاول النزول في البئر المخيف حيث تفح الغيلان والهامات ذوات السبع رؤوس ورميم الجنود من الحروب القديمة مثقوبي الصدور و منزوعي الأعين وهياكل حملان وجدت في بطون الخراف المذبوحة , ليعلو صراخنا مجتمعا يجلب الكبار راكضين صدورهم تعلو وتهبط , أنفاسهم متقطعة , أوداجهم منتفخة . هكذا نقف دائما عند حدود ما . نحافظ على بعضنا من شرور أنفسنا.
المقبرة من بعد بئر الفحيح , كانت اللغز الأعظم الذي يتحدى جرأتنا ومعارف البنت الشقية الزهراوية , مهما ركضنا بأسرع ما في أرجلنا المجللة بالجروح والقيوح من جهد , مهما أغمضنا أعيننا ودفعنا بعضنا قدما كانت أجسادنا تقف مفرملة مثيرة الغبار قبل سنتيمترا واحدا من حافة الباب المؤدي إلي دار الصحابة والجبانة
أقف عند أسماؤنا , اجد صعوبة في فصل مآثرنا عن بعضها , في كل بيت يتكرر اسم الجد والجدة , لكل بنت وولد اسمان مركبان , يحب احدهما ويكره أن ينادى بالأخر , تفاصيل كانت تميزنا عن الآخرين خارج سور الوسعاية , تثير الحرج والحسد أحيانا , لا تفرق بيننا غير أسماء ابأءنا , أمهاتنا أخوات وبنات عم وخالات و آباءنا وأمهاتنا أقارب من كل المستويات , لولا أسماؤنا نتشابه في لون العيون , ملاسة الشعر , نسبة الجمال في كل درجاته , لون بشرة عسير الوصف , درجة الشقاوة والحيوية الزائدة , يجمعنا الهزال , لكثرة ما نلعب ونركض طيلة اليوم , نتجاهل نداءات الأمهات ساعات الغذاء والترويقات , لانذكر أسماء الأكل وأنواعه نبتلع مايقدم لنا على عجالة لا ننتبه خلالها للطعم والنكهة , لا نسمع إلا ما نرغب به , نطير مثل سرب من غرانيق طويلة الرقاب حين نسمع بوق بائع الجيلاتي امام بوابة الوسعاية الحديدي المهيب , نجلس نلحسه ببطء شديد كي يدوم طويلا , كي نغيظ من تسرع وابتلعه وجلس يراقبنا متحسرا , ليسيل من مرافقنا , يجلب حولنا النحل يحوم مهددا فيما تتحفز أقدامنا للركض عند اشتداد أزيزه


يتبع

ليلى النيهوم

No comments: